((الواقع الجديد)) الاحد 5 فبراير 2017م/المكلا
يكتبها : أحمد باحمادي
( 1 )
إلتجأ إلى الأدب ليروي ما في نفسه من ظمأ ..
انسابت بين أنامله الكلمات كما ينساب الرمل بين يدي طفل يلعب في طرف الشاطئ.
ترامت على أحضانه الأفكار .. يعانق ما يشتهي منها .. ويقبل ما يشاء.
فلما أروى غليله .. نظر بين يديه ليجد نتاج ما أبدع ..
كان شيئاً ربما يرضى عنه الآخرون.
الحقيقة أنه كان لا يأبه إن لم يفعلوا ..
المهم عنده أنه قد قضى في الأحرف وطره.
( 2 )
مُدت الموائد .. كانت تعجّ بأصناف الطعام وألوان الأطباق ..
سال اللعاب من أفواه المدعوّين ..
وحدّقت عيونهم في صحافها البراقة .. ما كانت لتتحملها أية طاولة
لولا أنها فُرشت على الأرض.
دقت ساعة البدء وبدأ النزال .. نسي كل رفيق رفيقه .. لا تُسمع إلا
الهمهمات واللمسات واللحوسات.
لما انتهى الجميع .. ظهرت أمام صدورهم زوائد لم تكن توجد ..
وعبق الجو بروائح الجشاء وأصوات التثاؤب ..
تمايل المدعوون على الأرائك واسترخوا.
بعضهم ذهب في غفوة إذ لم يتحمل .. أما البقية فناقشوا فيما بينهم كل شيء ..
إلا أخبار إخوانهم ممن يقضي جوعاً ويموت برداً ولا يجد كسرة خُبز أو دثار.
( 3 )
في زاوية المسجد الرحيب .. مشى على السجاد الناعم الوثير ..
انطبعت آثار أقدامه عليه.
وقف قبالة رفِّ المصاحف .. سحب أحدها .. نفض الغبار عنه وراح يقرأ.
أحس أن الخشوع ينأى عنه .. والفهم يستعصي عليه ..
لقد طال بعده عن قراءة القرآن.
حلق في سماء التفكير .. هام في أودية الخواطر .. كل ذلك أثناء ما هو يقرأ.
جاءت سجدة تلاوة فأيقظته مما هو فيه ..
عبأ شحنات العبودية .. خاطب نفسه بعد أن رفع “إلى متى نحن هكذا ؟”
ناجى ربه بعد سجوده ” تراك ـ يا ربُّ ـ تُعذّب وجهاً سجد لوجهك ..
حاشاك .. حاشاك “.
( 4 )
غادر موطنه بعد أن سُدَّت في وجهه سُبُل المعيشة ..
أقام في المهجر .. لكنّ الحنين يعاوده كل حين.
تقاطرت سنوات عُمُره .. ومع ازدياد سنين الغربة يزداد الحنين.
جمع ما يكفي من المال .. وأضحى فقيراً من الفرح ..
تتجدد أحزانه كل عِيد .. ويرى دموعَ عينيه نهراً.
لا يدري متى يعود إلى الوطن ..
قبل المنام .. يهتف لنفسه كل ليلة ” تصبحين على وطن “.
( 5 )
نشأ محباً للقراءة .. شغوفاً بالاطلاع ..
لا يلفى قصاصة من جريدة إلا أخذها..
لم تنْجُ من بين يديه أسطر إلا التهمها التهاماً.
كَبُرَ .. وكَبُرَ معه حبّ الاطّلاع ..
كان يقرأ كل نهار .. كل ليلة .. ولو على ضوء الفوانيس.
يستطيع اليوم أن يقرأ الإيماءات .. الوجوه .. الضمائر .. وكل شيء.
وبالرغم من ذلك لم ينقصْ شغفُه بالكتاب.
( 6 )
سنتان مرّتا على اندلاع الحرب في موطنه ..
احترق كل شيء .. احترقت الحياة .. احترقت الأحلام ..
ومعها احترق مستقبله المشرق ..
ينخر الفساد في أوصال أرضه .. والفقر أضحى سيد الموقف.
يعيش الناس مَقْصِيّين كأنهم في منفى .. وكأن البلد ليس بلدهم.
مشردون في مكان .. متسولون .. لاجئون .. لصوص ..
والقائمة لا تنتهي.
( 7 )
لم يحبّ الأضواء منذ نعومة أظفاره .. ابتعد عنها وعاش في منطقة الظل.
على العكس من أصحابه الذين استغلوا كل شيء.
كان أكثرهم ذكاءً ومقدرة على خوض الغمار .. لكنه تنازل.
لم تغرِه زهرة الشهرة .. وإن تاقت إليها نفسه في بعض الأحيان.
تفيدوا .. تمصلحوا .. تعنتروا .. وتجاهلوه ..
شقّ حُجُبَ التقوقع .. وكسر الشرنقة ..
فرد جناحيه .. وحلّق في سماء الكون دون خوف.
كان كفراشة جميلة .. تحمل كل ألوان الطيف .. وتجمع الرحيق بقلبٍ مفعم.
( 8 )
رفع يديه بتكبيرة الإحرام .. أطلق من كان بجانبه جشأة مدوية.
لم يعلم إن كانت تكبيرة إحرام أم ( قشعة إحرام )..
كتم أنفاسه .. تجاهل الوضع .. لكن ( القشعات ) زادت عن حدها.
بوتيرة منتظمة .. استمرت في كل ركعة .. ولم تنته حتى بانتهاء الصلاة !!
سلّم عن يمينه .. فسمع ( قشعة مدوية ).
لم يُطق صبراً على هذا الوضع .. قام من مصلاه ..
والقشعات الأخيرة تلاحقه .. بأصدائها في جنبات المسجد.