“الواقع الجديد” الأحد 7 مارس 2021 / الكاتب د.عيدروس نصر ناصر
لماذا فشلت “ثورة الربيع العربي” في شمال اليمن؟
تسود الوسط السياسيي اليمني حالة من التجاذب والتعاتب، ومحاولات ردم اللحظة الثورية التي أنشأتها ثورة الشباب السلمية مع مطلع العام 2011م حينما أوشكت على الإطاحة بمنظومة الحكم الاستبدادية التي امتدت ثلث قرن بالوفاء والتمام، وينخرط في هذه الموجة الطرفان الرئيسيان في صناعة منتجات تلك الفترة الزمنية (ثلث القرن) من السياسات التي أوصلت البلاد إلى ما وصلت إليه عشية اندلاع ثورة الشباب السلمية العظيمة، أعني حزب المؤتمر الشعبي العام (جناح الرئيس السابق) وحزب التجمع اليمني للإصلاح، الذي يدعي أن الثورة ثورته، بينما يتهمه المؤتمر بأنه من خرب البلاد من خلال “ثورته”، ويسعى بعض الكتاب و”المثقفين” والإعلاميين في هذين الطرفين إلى التوفيق بين قيادتيهما لإعادة التحالف الذي دام قرابة ثلاثة عقود والذي مكنهما من التحكم بدفة السياسة تارة بالشراكة والاتفاق وتارةً بتبادل الأدوار وحتى التنازع مع الإبقاء على شعرة معاويه فيما بينهما، للحفاظ على كل ما أنتجه ذلك الثنائي من منظومة فساد أكلت ما فوق الأرض وما تحتها.
ليس عيبا أن تسعى قوتان سياسيتان أو أكثر على أي ساحة سياسية لمعالجة خلافاتهما والعودة إلى التحالف والبحث عن مشتركات فيما بينهما إذا ما كان هذا سيصب في مصلحة وطنية كبرى، لكن هؤلاء يريدون إبرام اتفاقٍ بينهما من خلال “مصالحة خالية من المصارحة”، والأهم أنها مصالحة لا تستهدف الاعتراف بالفشل والاعتذار عما ارتكبه الطرفان في حق الشعب اليمني في الشمال والجنوب، بل إنها تستهدف العودة إلى النقطة التي توقف فيها العمل المشترك بينهما لاستئناف نفس السياسات التي دمرت البلد، حينما اتفقا وحينما اختلفا، والشجعان من الطرفين يبوحون بما يخفيه قادتهم من خلال تبادل العتاب واتهام كلٍ منهما الآخر بأنه السبب في ما وصلت إليه البلاد.
توقفت عند هذه النقطة لأنها المدخل للإجابة على سؤال هذه التناولة، فالطرفان يتبادلان الاتهام بالمسؤولية عما وصل إليه الوضع من هيمنة للعصابة السلالية على البلد، ففي حين يتهم المؤتمريون الإصلاحيين بأنهم من أدخل الحوثيين إلى صنعاء، حينما سمحوا لهم بالدخول إلى ساحات التغيير وميادين الاحتجاج، يتهم الإصلاحيون المؤتمريين بأنهم هم من أدخل الحوثيين إلى قصر الرئاسة في الستين، وسلموهم الجيش والأمن والأسلحة الفتاكة ووقفوا معهم في اجتياح المدن والقرى ةإسقاط المحافظات والتمدد من الساحل ‘لى الساحل.
وللعلم ليس الإصلاحيون هم من فتح ميادين الاحتجاج للحوثيين بل لقد دخلوا دونما تنسيق مع أحد شأنهم شأن الجميع ولم يتميزوا إلا بعد أشهر عندما بدأوا يقيمون الفعاليات الخاصة بهم وكان وصولهم إلى ميادين الاحتجاج مجرد خطوة تشبه توافد العسكريين والقبائل والقوى السياسية وأجنحة المؤتمر التي انشقت من حزب صالح وأيدت الثورة، ويعرف الجميع أن شعار الصرخة كان يرفع في مساجد صنعاء منذ عدة سنوات تعود إلى بدايات الفرن، لكن القائمين على المنصات عند اندلاع الثورة الشبابية السلمية، كانوا يبتهجون بكل وافد جديد وكان الحوثيون قد أوقفوا المعارك في صعدة بعد ما أسقطوا المحافظة كاملةً ودخلوا في حوارات مع الكثير من القوى السياسية بما فيهم رئيس الجمهورية نفسه.
وهما يكن الأمر فشتان بين فتح ميدان الثورة لفئة صنفت مذ ذاك وفيما بعد على إنها جزء من الخارطة السياسية اليمنية، وبين تسليم هذه الفئة جيشاً ودولةً وأسلحةً ومساحاتٍ واسعةً من البلاد ومعسكراتٍ مكتظةً بالرجال والعتاد والمؤن وكل ممكانت الحرب والسلم، ومن ثم اتهام الغير بأنه صنع هذه الفئة أو سهل لها نشاطها، والمسألة واضحة ولا تحتاج إلى أي مستوى استثنائي من الذكاء.
والآن نعود إلى السؤال لماذا فشلت الثورة الشبابية السلمية في شمال اليمن؟
الحقيقة إن ما ينطبق على كل “ثورات الربيع العربي” من الانطلاقة العفوية وغياب البرنامج السياسي وطرح الهدف دون تحديد الوسائل، وغياب أي رؤية لما بعد بلوغ الهدف الرئيسي وغياب القيادة السياسية الموحدة وغيرها من العيوب التي رافقت جميع تلك الثورات، ينطبق على التجربة اليمنية في الشمال لكن أسباب وأد الثورة الشبابية اليمنية تكمن في مكان آخر، ويمكن تلخيصها في ما يلي:
1. إختطاف الثورة الشبابية من قبل القوى السياسية، وقطبها الرئيسي، التجمع اليمني للإصلاح، ومعه الجناح العسكري الفرقة الأولى مدرع، التي تحولت إلى وصي عسكري على الثورة وعلى حركة الثوار في الميدان، وخصوصا في ميدان التغيير في صنعا، وهو المركز ألأكبر لتجمع الثوار.
2. إن من في الميادين لم يكن يجمعهم لا موقف سياسي مشترك، ولا رؤية ولا قواسم سياسية مشتركة، بل لقد دخل في المعمعة كلٌ بأهدافه ورؤاه ولا يمكن تبرئة البعض من الرغبة في السعي للهيمنة على البلد بمفرده بعد انجلاء غبار المواجهة، وشطب بقية القوى السياسية والمجتمعية من خارطة الشراكة، وهو ما تبدى لاحقا في سلوك الجماعتين الحوثية والإصلاحية.
3. استخدام النظام كل قدراته ومهاراته في المراوغة، حيث تقدم الوسطاء بين الرئاسة وأحزاب المعارضة بمبادرة تنص على إيقاف الاحتجاجات وفتح الطرقات والتوقف على ما أسموه بـ”قطع الطرقات وتعطيل الحياة المدنية”، مقابل استقالة الرئيس خلال ستة أشهر وتشكيل حكومة مناصفة بين الحزب الحاكم والمعارضة، وقد جرت المماطلة في هذه المبادرة التي شهدت عدة تعديلات وتحويرات، ثم جاء تدخل السفير الأمريكي وبعض سفراء الاتحاد الأوروبي في الوساطة، التي تحولت فيما بعد إلى ما عرف بـ”المبادرة الخليجية”.
4. ولمن لا يعلم فإن الأشقاء في دول مجلس التعاون الخليجي، بما في ذلك السيد عبد اللطيف الزياني أمين عام المجلس الذي ظل في حالة حركات مكوكية بين صنعاء الرياض والبحرين، لم يكن سوى ناقلاً للأفكار المتبادلة بين الرئيس والمعارضة، أما المبادرة فقد صيغة في قصر الستين الجنوبي، وكانت كل التحسينات والتعديلات التي تجري على المبادرة تتم بقلم بعض أساطين النظام وخبرائه السياسيين والقانونيين، وما أكثرهم.
5. لقد كانت تطلعات المعارضة متواضعة، وتبتعد بمسافات شاسعة عن شعارات الثورة والثوار وتطلعاتهم في استئصال النظام المتهالك وإعادة بناء دولة مدنية جديدة مختلفة عن نظام ثلث القرن المنصرم، فقد اعتبرت معظم أحزاب المعارضة تنازل الرئيس السابق عن نصف الحكومة وقبوله بالاستقالة، ومن ثم حصولها (أي المعارضة) على نصف مقاعد الحكومة مكسبا كبيرا لها، ومن ثم لفقد قبلت بكل شروط الرئيس بما في ذلك استمراره في التحكم بنصف الحكومة، ومنحه حصانة مدى الحياة، واختصار الفترة الانتقالية إلىى سنتين، والأهم من هذا إن المبادرة حولت الثورة إلى صفقة سياسية تم فيها تقاسم السلطة ولم تتم فيها معالجة الأسباب العميقة التي أشعلت الثورة.
6. وحينما قبلت أحزاب المعارضة بالمبادرة وبدأ شبابها بالانسحاب من الميادين بقي القلة المشتتون المشوشون محدودو القدرة والتأثير بفعل هيمنة الأحزاب على الفضاء الإعلامي والسياسسي خلال ما قبل الاتفاقية، وانتقلت الثورة من حركة تغيير إلى بداية التنازع على المناصب، والتسابق على المكاسب.
لقد كان واضحا أن صفقة المبادرة الخليجية ليست مرشحة للنجاح، فعندما يطالب زعيم مخلوع بالحصانة ثم يواصل العمل السياسي فإنه يمنح نفسه حق استئناف الجرائم التي بسببها تمسك بالحصانة، رهانا على متغيرات قادمة تمنحه حصانة جديدة، وهو ما يعني استمرار الفساد والعبث واستغلال نصف السلطة التي يتمتع بها مضافا إليها عناصر القوة التي يتفوق بها في الجيش والأمن والدولة العميقة، لتخريب أي نجاح يمكن أن يحسب للثورة، انتظارا للحظة العودة إلى الحكم للرهان على إن الزعيم هو الوحيد الذي يصنع النجاحات ويوفر الأمن.
لن نتحدث طويلا عن عمليات تفجير أنابيب النفط وقصف أبراج الكهرباء في مأرب، وهي العمليات التي توقفت بمجرد سيطرة الحوثيين على صنعاء، لكننا نشير إلى أهم سبب من أسباب فشل ثورة الشيباب السلمية الرائعة في الشمال، وهي إنه وبعد هيمنة الأحزاب على الثورة، كان طرفا الصراع يتنازعان ليس على من يقدم مشروعاً وطنياً منقذاً للبلد ومؤسساً لمداميك دولة يمنية قادمة من تطلعات الشعب، بل لقد كانا يتصارعان على من يهيمن على مصالح أكثر ومن يقوي نفوذه أكثر، وجاء استنجاد الرئيس صالح بالحوثيين، ليس لنسف مخرجات الحوار الوطني (كما يقول البعض)، فقد كان الجميع ضدها ما عدا الرئيس هادي وقليل من مقربيه، بل لتغيير ميزان القوة العسكرية قبل السياسية لصالحه، معتقداً أنه سيبيد خصومه بالحوثيين، الذين ستنهكهم المعارك فينقض عليهم ويعود مرة أخرى منتصرا على الجميع حاكماً أبديا لا شريك له ولذريته، لكن شطارته خذلته وتعرض لما كان ينتوي أن يفعله بخصومه.
عقد على ثورات “الربيع العربي”12
كما كنا قد تعرضنا في حديث سابق، فإنه يمكن النظر إلى الثورة الجنوبية السلمية باعتبارها أولى ثورات الربيع العربي، وقد اندلعت قبل الثورتين التونسية والمصرية وبقية الثورات بأربعة أعوام وبضعة أشهر، واتسمت بكل المزايا التي اتسمت بها بقية الثورات، من حيث غياب التنظيم القائد وغياب البرنامج السياسي المتضمن لكافة المنهاج السياسي للثورة، وللاستراتيجية والتكتيك الثوريين وآفاق المستقبل.
لكن ما يميز الثورة الجنوبية عن سواها أنها وبخلاف بقية الثورات التي طرحت شعار إسقاط النظام، طرحت (أي الثورة الجنوبية) شعار “إنهاء الاحتلال” واستعادة الدولة الجنوبية، مع التعبير عن هذا الشعار بمفردات مختلفة ليست بالضرورة متعارضة، بين “الانفصال” و”فك الارتباط” و”تقرير المصير” وغيرها، لكنها كلها لم تكن تختلف عن العودة إلى حل الدولتين وفقا لحدود ٢١ مايو ١٩٩٠م
وهكذا فقد خاضت الثورة الجنوبية تحت هذا الشعار مواجهةً ليس فقط مع نظام حكم الرئيس علي عبد الله صالح وحزبه وجيشه وأجهزته الأمنية، ومحيطه السياسي، لكن كانت المواجهة حتى مع بعض المعارضين للرئيس علي عبد الله صالح ممن شاركوه غزو الجنوب في ١٩٩٤م، وهو الأمر الذي استمر حتى اندلاع الثورة الشبابية السلمية، في فبراير 2011م.
وإذا كان اندلاع الثورة الشبابية السلمية قد أحدث اهتزازات عنيفة في تركيبة نظام الحكم في صنعا، فإن القضية الجنوبية تحولت في بعض الأحيان إلى وسيلة ابتزاز بين الحكم ومعارضيه، ولنا أن نتذكر أن القطب الرئيسي في المعارضة هو حزب التجمع اليمني للإصلاح، وهو شريك بالمناصفة مع علي عبد الله صالح ونظام حكمه في غزو الجنوب وتدمير دولته ومسؤول بالمناصفة مع علي عبد الله صالح وحزبه في المسؤولية عن كل الجرائم التي تلت الحرب، مضافٌ إلى ذلك مسؤوليته عن فتوى الاستباحة والقتل وانتهاك الأعراض وارتكاب المحرمات، هذا الحزب قد حاول ان ينسب كل تلك الجرائم للرئيس صالح ونظامه، وبالمثل فعل حزب صالح ووسائله الإعلامية في محاولة التبرُّء من تلك الجرائم وتحميلها لحزب الإصلاح.
ومن هنا فإن ادعاء الإصلاح نصرة القضية الجنوبية ظل محل شك من قبل القوى الجنوبية الفاعلة، وسخرية وتندر من قبل قادة ومثقفي وإعلاميين حزب الرئيس صالح.
وهناك حادثة مفصلية لا القفز عليها، ونحن نتحدث عن الثورة الجنوبية والقضية الجنوبية، فمع تصاعد أزمة ألنظام الداخلية وصراعه مع شباب الثورة السلمية في المدن والمديريات والمحافظات الكبيرة، وتنامي حركة الرفض لاستمرار نهجه، بسبب السياسات الاحتلالية في الجنوب والاستبدادية في الشمال، ومع استمرار الشعب الجنوبي ومقاومته السلمية في التمسك بشعار الثورة السلمية، كان الجنوب على موعد مع انقلاب جذري في أسلوب تعامل النظام مع ثورة الجنوب السلمية ومطالب الشعب الجنوبي المشروعة، حيث صحا الجنوبيون على أخبار تفيد بسيطرة تنظيم “أنصار الشريعة”، النسخة الجنوبية من “تنظيم القاعدة”، على كامل محافظة أبين، وجاء هذا الحدث في ظل اختفاء كلي للمعسكرات والألوية والوحدات العسكرية ومعسكرات أجهزة الأمن بكامل فروعها، المركزي والسياسي والقومي والعام والحرس الجمهوري، كل هذه الفيالق ذابت كفص ملح في حوض سباحة، وقال لي شهود عيان، إنهم شاهدوا العشرات من الوجوه الغريبة تقيم نقاطاً للتفتيش عند مداخل مدينتي جعار وزنجبار، دون وجود أية مواجهة مسلحة مع أي جهة أمنية أو عسكرية من تلك التي اختفت في ساعات من مواقعها، وقد اتضح فيما بعد بأن الرئيس علي عبد الله صالح أعطى توجيهاً لمحافظ المحافظة، المهندس أحمد الميسري بتسليم المحافظة لذلك التنظيم، وأمر قياداته الأمنية والعسكرية بعدم مواجهة أنصار الشريعة، بينما قال آخرون أن المعسكررات أخليت من جنودها وفتحت أبوابها ومخازنها للجماعة الإرهابية، وآضاف آخرون أن كل مسلحي التنظيم خرجوا من المعسكرات بل وأن معظم من انخرطوا في صفوف هذا التنظيم هم جنود وضباط في أجهزة الأمن والجيش، وهذا يختصر لنا المشهد القائم على عميلة التخادم بين التنظيمات الإرهابية والمؤسسة الأمنية والعسكرية الرسمية، وهي علاقة بدأت منذ ما قبل 1994م واستمرت وما زالت قائمة حتى اللحظة.
وبغض النظر عن التفسيرات والتأويلات والتحليلات المختلفة حول ما جرى في أبين عام ٢٠١١م فإن الحقيقة المرة هي أن المديريات الساحلية والوسطى لمحافظة أبين قد تعرضت لأعنف وأسوأ وأقذر عملية غدر في تايخها، اشترك فيها التنظيم الارهابي والسلطة المركزية والسلطة المحلية والأجهزة الأمنية والعسكرية، باستثناء اللواء المدرع في زنجبار الذي رفض ركن العمليات فيه العميد الكازمي، أوامر التسليم لأنصار الشريعة، هذه العملية الغادرة دفع ثمنها مئات الآلاف من أبناء وبنات أبين الأبية.
وبعد مواجهة عنيفة وتضحيات جسيمة وتدخلات خارجية وضربات مؤلمة تلقاها التنظيم الإرهابي المقاومة الجنوبية الباسلة، تلاشى التنظيم وتحولت المقاومة الجنوبية إلى نواة للقوات الجنوبية اللاحقة التي إلحقت الهزيمة النكراء بقوات التحالف الانقلابي في العام 2015م.
وهناك الكثير مما يمكن قوله عن هذه الثورة الاستثنائية، لكن أهم العبر التي قدمتها أن الشعب الذي يؤمن بقضيته ويتمسك بها ويدفع ثمن استمرارها، لا يمكن قهره مهما امتلك خصومه من أدوات القهر والتدمير والترهيب، او من مهارات الخداع والتحاذق والتزييف.
وقد قدم الشعب الجنوبي نموذجا يستحق تكرار قراءته واستبطان تفاصيل معطياته.
وأخيرا ولإن شهدت الثورة الجنوبية تعرجات وانحناءات في مسارها او تعرضت لمؤامرات ودسائس من خصومها، أو تراجع بعض رموزها أو انكفأ أو ارتبك البعض الآخر، وهذه جميعها امورٌ متوقعةٌ في كل ثورات العالم، فإن الثورة لم تنكفئ ولم تنحسر ولم تتراجع بل لقد اكتسبت زخما إضافيا جديدا منذ العام ٢٠١٥م بعد تحرير الجزء الأكبر من مساحة الجنوب من قوات الغزو الانقلابي، وبعد قيام المجلس الانتقالي في مايو ٢٠١٧م، ليغدو القوة الساسية الرائدة والمتقدمة في تيني القضية الجنوبية واستمرار السير حتى تحقيق اهداف الثورة الجنوبية واستعادة دولة الجنوب بحدود ٢١ مايو ١٩٩٠.
عقد على ثورات “الربيع العربي” (13 والأخيرة)
خلاصات وتوقعات
ن قضية “ثورات الربيع لعربي”، التي نحن بصددها في هذه السلسلة من المتابعات تستحق دراسةً أكثر عمقاً واتساعاً حتى تنال حقها من التحليل الأعمق والقراءة المستوفية، بيد إننا حاولنا تسليط الضوء على أهم المحطات والإشكاليات المتصلة بهذه الثورات التي اندلعت خلال فترات زمنية متقاربة، مع أواخر العام 2010م ومطلع العام 2011، باستثناء الثورة السلمية في جنوب اليمن، بوضعها المبكر وتميزها بمطالب جمهورها واستمراريتها واستمارها أكثر من أربعة عشر عاماً، ومع الإقرار بتمايز الظروف والأوضاع التي في ظلها اندلعت هذه الثورات وتفاوت التعقيدات التي نشأت في طريق كل منها واختلاف مآلاتها فإن هذه الثورات قد قدمت في المحصلة النهائية لوحةً معقدةً ومتباينةً للواقع العربي في بلدان تلك الثورات، وهو ما يعني أن هذه الثورات لم تكن حالة من حالات المزاجية أو الرغبة الذاتية كما لم تكن ولا يمكن أن تكون ثمرة لـ”مؤامرة خارجية” استقطبت ملايين المواطنين وجعلتهم يقدمون دماءهم وأرواحهم رخيصة لتنفيذ تلك “المؤامرة”.
وقبل أن نختتم هذه السلسلة من المتابعات نشير إلى مجموعة من الحقائق والاستنتاجات والتوقعات المتصلة بكل ما قلناه عن “ثورات الربيع العربي” وأهمها:
1. إن هذه الثورات قد جاءت لتعبر عن استفحال الوضع السياسي والاجتماعي والمعيشي والإنساني في بلدانها مما دفع الجماهير إلى الخروج إلى الشارع للمطالبة بتغيير النظام السياسي القائم الذي شاخ وبلغ مرحلة الموت السريري.
2. إن هذه الثورات قد عبرت عن بلوغ مرحلة السخط الشعبي أقصى مداه واستعداد المواطنين لتقديم أرواحهم في سبيل الخلاص من أنظمة الفساد والاستبداد.
3. إن هذه الثورات، انطلقت عفوية وبلا قيادة سياسية واضحة ذات رؤية سياسية منضجة تستكشف تعقيدات المرحلة وتحدد مهماتها المرحلية والبيعدة المدى ووسائلها التكتيكية وأهدافها الاستراتيجية وآفاقها المستقبلية بمنهاجية سياسية متكاملة.
4. إن الثورات الشعبية ليست ولا يمكن ان تكون وليدة مؤامرة خارجية أو حتى داخلية بل لقد كانت وليدة بلوغ ازمة الأنظمة مرحلة مستعصية على الحل أو الترحيل.
5. إن هذه الثورات قامت في بيئات مختلفة وتحديات مختلفة، سواءٌ من حيث طبيعة نظام الحكم أو من حيث نضوج التقاليد السياسية ونضوج الفرز السياسي بين قوى الثورة والقوى المضادة لها أو من حيث موقف القوات المسلحة من الصراع بين الشعب ونظام الحكم، وغيرها من الاختلافات.
6. إن هذه الثورات قد حددت الهدف الأول من اهدافها والمتمثل في “إسقاط النظام” لكنها لم تحدد ما بعد إنجاز هذا الهدف، وعندما تمكنت في بعض البلدان من تحقيق هذا الهدف ارتبكت عند الامتحان الأول مما مكن قوى الاستبداد من إعادة ترتيب اصطفافاتها وتجديد خطابها السياسي لمحاولة التبرؤ من عيوب وجرائم الماضي واختطاف الثورة من صانعيها وعرقلة بلوغها أهدافها الجذرية.
7. إن محدودية الخبرة السياسية للقائمين على “ثورات الربيع العربي” وغياب الطليعة السياسية المجربة والناضجة قد جعل هذه القوى تتوه في دهاليز السياسة والتعرض للتسلل والاختطاف على أيدي جماعات الإسلام السياسي وبعض التنظيمات المتطرفة فضلا عن اندساس وكلاء المخابرات الخارجية لتمرير أجندات مراكزها العالمية، ما حول الوضع السياسي الذي صنعته الثورات إلى بيئة للعبث والتخريب والإرهاب والأعمال المشبوهة لأطراف كتعددة معروفة وغير معروفة مستغلةً حالات الفراغ السياسي الذي احدثته الثورات في ظل انهيار الأنظمة.
8. إن عناد وتصلب بعض الأنظمة ورفضها الاستجابة للمطالب الشعبية المتواضعة وإصرارها على الحسم العسكرى ضدا على إرادة الشعوب، قد أجبر الثوار في تلك البلدان على الخروج على النطاق السلمي واللجوء إلى العمل المسلح لمواجهة العدوان المسلح لأنظمة الاستبداد والفساد والدفاع عن المواطنين وناشطي الثورات.
9. إن هذا العناد والمكابرة والتصلب والإصرار من قبل الأنظمة الاستبدادية على حسم المواجهة مع الشعوب بالوسائل العسكرية، قد أطال أمد المواجهة وهو ما فتح الأبواب على مصاريعها، لتدخل الجماعات الإرهابية وجماعات الانتهازية السياسية والتخريب الاقتصادي والمالي ما أدى إلى ظهور ما يمكن تسميته ب “أثرياء الحروب” والتي تستمد قوتها وثراءها من خلال الهيمنة غير المشروعة على مصادر الثروة والموارد المالية في مناطق نفوذها، او من خلال الاتجار بالممنوعات من اسلحة ومهربات ومخدرات وتهريب البشر وكل اشكال الأنشطة المدرة للأموال مهما كانت مخالفة للقوانين والاعراف والأخلاق والأديان.
10. إن “ثورات الربيع العربي” وما بلغته من آماد لا تمثل بأي معنى من المعاني نهاية التاريخ، بل إنها ما تزال في بدايات دروبها الطويلة، ولنتذكر دوما إن هدم انظمة الاستبداد والفساد قد لا يتتطلب وقتا طويلا، لكن إعادة بناء أنظمة جديدة خالية من القمع والفساد والطغيان والاستبداد هي التحدي الكبير الذي فشلت فيه الكثير من الثورات، وحتى الناجحة منها تتطلب زمنا طويلا لتصل إلى مرحلة من الاستقرار والانطلاق نحو النهوض والبناء والبدء بتحقيق أهداف الثورة وهي عملية طويلة قد تستغرق سنواتٍ وعقوداً طويلة.
وفي هذا الإطار تأتي مزايدات قوى الاستبداد وأدواتها الإعلامية من خلال تصوير الثورات على إنها عمليات تخريبية ليس إلا وأنها هي من تسبب في الانهيارات المتوالية لبعض البلدان وحدوث أزمات الخدمات والمجاعات والحروب الداخلية والأزمات الإنسانية، وإعفاء أنظمة الاستبداد من فشلها في القيام بواجباتها عندما حولت موارد البلدان إلى الثراء الشخصي لزعاماتها وعائلاتهم ومقربيهم وتحويل الشعوب إلى أعداء مفترضين.
11. إن من نتائج إصرار الطغاة على مواجهة الثورات بالقوة أو بالاحتيال والمراوغة إطالة أمد الأزمات وتدمير البلاد والقضاء على الطغاة أنفسهم، بع أن خسوا نفوذهم وفقدان البعض حيواتهم حينما كانوا يطمحون في العودة إلى الحكم ولو بالتحالف مع الشيطان.
12. إن المستويات التي وصلت إليها بعض بلدان “الربيع العربي” تجعلنا نؤكد أن الآفاق ما تزال مفتوحة لمختلف الاحتمالات، وكل هذه الاحتمالات تعتمد على توازن القوى بين معسكر الثورة ومعسكر أعدائها، وما يقتضي ذلك من أهمية قيام اصطفافات عريضة لقوى الثورة بغض النظر عن تبايناتها الأيديولوجية أو خلفياتها السياسية على أساس أهم القواسم المشتركة المتمثلة برفض الاستبداد، واحترام الحريات العامة، التعدد والتنوع، واحترام حق الاختلاف، ورفض العنف وتحريم حل الخلافات عن طريق السلاح، وبناء دولة المواطنة القائمة على النظام والقانون والمؤسسات.
13. لقد تساءل كثيرون عن سبب عدم قيام هذه الثورات في البلدان العربية ذات الأنظمة الملكية والأميرية، والحقيقة إن الثورات لم تقم في تلك البلدان لأن شعوبهالم تكن بحاجة إلى الثورات حيث إن الظروف والمتطلبات الموضوعية والذاتية لقيام ثورة فيها لم قائمة وهذه البلدان مهيأة للاستقرا السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
14. إن من ساهموا في الثورات ومن تبوأوا مواقع مركزية فيها ليسوا مجموعة من الملائكة بل هم بشرٌ عاديون يخطئون ويصيبون، ويقعون في حبائل الشياطين مثلهم مثل سائر البشر، ولذلك شاهدنا الكثير من الأفراد الذين لمعت أسماء بعضهم على حساب الثورات وشهدائها وعذابات جرحاها ومعوقي عمليات القمع خلالها، شاهدنا هؤلاء وهم ينحرفون ويذهبون باتجاه الإثراء والتكسب وبناء الثروات والمؤسسات والاستثمارات وادعاءهم احتكار الثورية والوطنية والأهلية والأحقية لهم وحدهم ولأحزابهم التي استحوذت على الثورة وحولتها إلى ملكية خاصة بالحزب وقيادته.
وأخيراً من المهم هنا الإقرار بأن الثورات ليس عملاً مزاجيا او رغبات عاطفية تتلبس هذا الشخص او تلك المجموعة من الناس في لحظة من اللحظات، بل إنها مرحلة من التطور التاريخي لشعب من الشعوب وأمة من الأمم لها شروطها الموضوعية والذاتية، وهذه المرحلة لا تتأتى إلا عند ما يبلغ النظام القائم في أزمته السياسية حد الاختناق وانسداد الآفاق أمام قدرته على مواصلة قيادة البلاد بنفس المنهاجية، وعندما لا يعود لدى الشعب ما يكفي من الطاقة لتحمل المزيد من التضييق والقمع والحرمان والظلم والاستبداد والفساد، ويكون على استعداد لدفع كلفة التغيير مهما كانت مرتفعة.