“الواقع الجديد” الثلاثاء 29 ديسمبر 2020 / سكاي نيوز عربيه
في ثالث أيام هذا العام، قتلت طائرة أميركية قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، بالقرب من مطار بغداد الدولي، ليكون ذلك الحدث إيذانا بعام صعب للغاية، بالذات من حيث تحول النزاع الأميركي – الإيراني من صيغته المبهمة، حيث كان الطرفان يتبادلان الرسائل والضغوط السياسية والعسكرية عبر الوسطاء، إلى صراع مفتوح بين الطرفين، أثبتت فيها الولايات المتحدة قدرتها على تنفيذ ما ترغب به لو تطلب الأمر.
الرد الإيراني جاء خجولا للغاية، بعد خمسة أيام من الحادثة، حيث وجهت رشقات صاروخية إلى قاعدتي “عين الأسد” و”أربيل” العسكريتين الأميركيتين في العراق، لم تتسبب بوقوع ضحايا، لكن مكمن الضعف الإيراني كان في التصريحات الرسمية أثناء عملية القصف، والتي أثبتت بأن الفعل الإيراني هو فقط لمجرد “غسل ماء الوجه”.
فوزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف صرّح مباشرة بأن هذا القصف سيكون محدودا زمانيا ومكانيا، ولن تليه أي عمليات عسكرية أخرى أبدا، كما تداولات وسائل الإعلام أنباء عن إخبار مُسبق من قِبل الطرف الإيراني لنظيره الأميركي بشأن العملية لأخذ الحيطة.
وفي نفس اليوم أسقطت الدفاعات الجوية الإيرانية طائرة مدنية أوكرانية بالقرب من “مطار الإمام الخميني” في العاصمة الإيرانية طهران، مما أثبت الحجم الهائل للارتباك الإيراني.
لقد كشفت هذه الأحداث ضعفا إيرانيا واضحا، ما لبث أن تلته سلسلة من التفجيرات الغامضة، التي طالت مواقع عسكرية وأمنية واقتصادية حساسة داخل البلاد.
ففي السادس والعشرين من شهر يونيو، حدث انفجار ضخم في منشأة لإنتاج الوقود السائل للصواريخ الباليستية، في منطقة خوجير القريبة من منشأة “بارشين” بالقرب من العاصمة طهران، وترافق بحريق آخر حدث في محطة لتوليد للطاقة في منطقة شيراز، تسبب بانقطاع التيار الكهربائي.
وفي آخر يوم من شهر يونيو، تم استهداف موقع نووي في “منشأة نطنز” عبر رسالة تفصيلية حول العملية، قائلة بأن النظام الإيراني لن يتمكن من إخفاء الحدث أبدا.
واعترف المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني بالحادثة بعد ساعات من الرسالة التي تداولتها وسائل الإعلام، معتبرا أن أسباب ما سماه بـ “حادث منشأة نطنز” معروف بالنسبة لهم، لكن صور الأقمار الصناعية التي وزعتها وكالة “ناسا” الأميركية أثبتت بأن ما جاء في الرسالة صحيحة تماما، وأن المسألة ليست مجرد “حادث”.
وفي اليوم التالي طال تفجير غامض عيادة طبية في العاصمة طهران، أودى بحياة 19 مواطنا إيرانيا.
وبعد ذلك بيومين اندلع حريق هائل في “موقع ناتانز” النووي، ما لبث أن تلاه حريق ضخم آخر في مدينة شيراز، وفي اليوم التالي حدث انفجار في محطة لتوليد الطاقة في منطقة الأهواز، تلاه انفجار ضخم، ثم حدث تسرب لغاز الكلور في محطة قارون للبتروكيماويات في منطقة ماشهر.
واستمرت تلك الأحداث طوال الشهور الماضية، إلى أن طالت عملية اغتيال غامضة في السابع والعشرين من شهر نوفمبر العالم النووي البارز محسن فخري زادة قرب العاصمة طهران.
سلطت هذه الأحداث الأمنية والعسكرية الضوء على ثلاثة سمات حول إيران خلال هذا العام، فمن جهة أظهر فارقا واضحا في الإمكانيات الأمنية والتقنية بينها وبين مناوئيها، الذين تمكنوا من فعل كل ذلك، دون أن تتمكن الأجهزة العسكرية والأمنية الإيرانية حتى من كشف شبكة صغيرة وواضحة من الفاعلين.
كذلك فإن إيران أظهرت هشاشة فيما يخص داخلها، ففي وقت تبدو فيها كلاعب إقليمي عابر للحدود، فإن البنية الأمنية والعسكرية في الداخل كشفت قابلية واضحة للاختراق.
أخيرا، فإن الردود الإيرانية الخجولة على تلك الأحداث، بالرغم من وضوح الفاعلين، أوضح أن التدابير والإجراءات الإيرانية تستطيع أن تكون عبر التابعين الإقليميين وأذرعها فحسب، وأن طهران “أضعف” من القابلية للرد بنفسها بشكل مباشر.
في ذروة تلك الأحداث، واستغلالا لها، أعلنت السلطات الإيرانية في أوائل شهر يوليو من هذا العام رفعا استثنائيا لأسعار المواد النفطية في البلاد، بما في ذلك الغاز المنزلي.
وكانت السلطات الإيرانية تعتقد بأن المواجهات الأمنية في البلاد، بالإضافة إلى أحداث شهر نوفمبر من العام الماضي، ستمنع أية احتجاجات شعبية على سياساتها تلك.
فالسلطات الإيرانية كانت قد قمعت بوحشية تامة اندلاع التظاهرات في أكثر من خمسين مدينة في أواخر العام الماضي، والتي وصل الغضب فيها لدرجة الحرق العلني لصور ورموز القادة السياسيين في البلاد، بما فيهم المرشد الإيراني، وطالبت بتغيير نظام الحكم في البلاد.
وقتلت السلطات الإيرانية أكثر من 1500 من المحتجين في تلك التظاهرات، واعتقلت أكثر من 25 ألفا منهم، وأعدمت المئات منهم سرا في سجونها خلال هذه العام، حيث قالت أرقام المنظمات الدولية بأن إيران هي أكثر دولة مارست الإعدام خلال هذا العام.
ولم ينفع كل ذلك، وبدأت التظاهرات تشتعل في كل أنحاء البلاد، بدأ من السادس عشر من شهر يوليو، واستمرت بوتائر متفاوتة في مختلف مناطق البلاد، حتى أن مساعد الشؤون الأمنية بوزارة الداخلية الإيرانية حسين ذو الفقاري صرّح لوسائل الإعلام بأن نسبة التظاهرات في عموم البلاد تضاعفت ثلاث مرات عما كانت عليه في العام الماضي.
إن تظاهرات البلاد طوال العام الجاري كانت دليلا على تدني الأحوال الاقتصادية للمواطنين الذين كانوا يعيشون تراجعا يوميا في قُدراتهم الشرائية، بسبب زيادة نسب التضخم وتراجع قيمة العملة الإيرانية وزيادة نسبة البطالة في البلاد.
وخلقت الأرقام التي أصدرها البنك الدولي حول إيران هذا العام صدمة للمتابعين للشأن الإيراني، إذ قالت بأن 1.5 مليون عامل إيراني قد خرج من سوق العمل في الربع الثاني من العام فقط، وأن جائحة كورونا كانت في إيران الأكثر تأثيرا على مستوى العالم، لأنها أدت لانخفاض مستويات التشغيل في كل المجالات، رغم عدم اتخاذ السلطات الإيرانية أية تدابير في سبيل الإغلاق، بعدما أعترف الرئيس الإيراني حسن روحاني بأن أعداد المصابين الإيرانيين قد تجاوز ستة عشر مليون مصاب.
أرقام المؤسسات الدولية قالت بأن فجوة العمل بين الجنسين في سوق العمل الإيرانية قد تجاوزت 14 في المئة لصالح الذكور، الأمر الذي يعني عمليا تراجع القطاعات الإنتاجية والتكنولوجية لصالح الخدمات.
لكن أهم مؤشرات هذا العام تمثل في الزيادة الكبيرة بعجز الموازنة وارتفاع المصروفات الجارية، الأمر الذي دفع السلطات الإيرانية لبيع المزيد من الأصول لتعويض التراجع الهائل هذا، إذ باعت الحكومة الكثير من الشركات المملوكة للدولة عبر سوق الأسهم، علما أن ذلك قد حدث لسببين رئيسيين، أولهما تراجع صادرات النفط الإيراني إلى الخارج بسبب العقوبات، حتى أنها صارت تغطي ما هو أقل من 2.5 في المئة من الميزانية العامة للبلاد، حسب الأرقام الرسمية التي قدمتها السطات الإيرانية للبنك الدولي، كما تراجعت الصادرات غير النفطية بنسبة تصل لمعدل الثلث، لتترافق جائحة كورونا مع العقوبات الأميركية على الشركات التي يمكن لها أن تتعامل مع المؤسسات المصرفية الإيرانية.
أوضاع الاقتصاد الإيراني كانت انعكاسا للعقوبات الاقتصادية والسياسية التي فرضتها الإدارة الأميركية طوال العام الماضي على إيران، بعدما كان الرئيس الأميركي دونالد ترامب قد أعلن في شهر مايو من العام 2018 انسحاب بلاده من الاتفاق النووي الذي أبرمته القوى العالمية مع إيران عام 2015.
وأدى عدم الاستجابة الإيرانية للتهديدات الأميركية لأن تفرض الأخيرة سلسلة من العقوبات الاستثنائية عام 2019، استهدفت بالذات القطاعين الأكثر حيوية في الاقتصاد الإيراني، النفط والمصارف.
هذه العقوبات التي لم تظهر نتائجها إلى خلال العام الحالي، لأن إيران استفادت من طيف من الاتفاقيات المسبقة مع الشركات والدول.
وفي شهر سبتمبر من هذا العام، أعلنت الإدارة الاميركية مزيدا من العقوبات التي فرضتها في العام السابق، لكنها بالإضافة إلى الكيانات المصرفية والشركات المتعاملة مع القطاع النفطي الإيراني، أعلنت معاقبة العشرات من المسؤولين الإيرانيين، الذين اتهمتهم الإدارة الأميركية بارتكاب انتهاكات جسيمة في مجال حقوق الإنسان.
وأضافت الخزانة الأميركية في أوائل شهر أكتوبر من هذا العام، عقوبات على أبرز 18 بنكا إيرانيا، الأمر الذي كان يعني فعليا شلّ القطاع المالي في البلاد، لكن الوزارة الأميركية حددت عبر بيان أصدره وزير الخزانة الأميركية ستيفن منوتشين وقتئذ، الإطار الذي تُفرض ضمنه العقوبات، التي لن تزال إلا بعد انعدام أسبابها، والتي حددتها بتوقف إيران عن دعم الإرهاب، وأن تضع حدا لبرنامجها النووي.
وأمام هذه الخيبات، ترقب النظام الإيراني طوال الشهور الستة الأخيرة تطورين رئيسيين: الانتخابات الأميركية التي جاءت بإدارة جديدة، والأمر الآخر دخول الاتفاقية الاستراتيجية التي وقعتها مع الصين حيز التنفيذ، مما قد يوفر مظلة حماية لها، حسب اعتقادها.