((الواقع الجديد)) الخميس 10 نوفمبر 2016
حاوره : أ. علي سالمين العوبثاني
“الحلقة السابعة “
توالت الحلقات حتى بلغت السادسة وكانت رحلة شائقة مع الأخ عمر علي عمر مبارك بن كردوس أعادتنا إلى ذكريات قديمة تمخضت بعطر أحاديث الماضي الجميل .
واليوم نتابع الحلقة السابعة في شأن آخر يتعلق بكيفية اختيار و تنصيب المراجع التي تتولى أمور الناس وحل قضاياهم المختلفة ..بل وتنظيم شئون حياتهم الاجتماعية في ذلك الزمن الذي افتقد للقانون والحكومة .وبما أن ما تم ذكره في حلقاتنا السابقة عن ما سطره أولئك الرجال الأفذاذ .. فقد دار بذهني سؤال عن من هم هؤلاء وكيف يتم اختيارهم .. وما هي المعايير الدقيقة في ذلك الاختيار الموفق وكيف يتم التعامل معهم في حال نكوصهم عن عهودهم ومواثيقهم وتفريطهم في مسئولياتهم ؟
فكان جوابه كالتالي :
(ج) بالنسبة للمراجع سبق وأن ذكرنا في أحد الحلقات السابقة بأنهم ينتمون إلى ديار معروفة في قومهم لا ينازعهم أحداً عليها ..وذلك لا يعني أنهم أفضل من غيرهم ، بل قد تجد أكفأ وأدهى منهم في ديار أخرى ، ولكن عوائد أجدادهم هي التي تقضي بأن يكون المرجع من تلك الديار بينما يتخذ من هؤلاء الذين لديهم الكفاءة والدهاء مستشارين له بحيث لا يقضي أمرا إلا بعد العودة لهم واستشارتهم فيه والأخذ برأيهم .
والإجابة فيما يتعلق باختيار هذه المراجع ( المناصب – الحكمان – المقادمة ) يتم ذلك عندما يرحل أي ( يتوفى ) أحد تلك المراجع بتداعي الجميع لحضور مراسيم تشييع المرجع الراحل وكذلك تنصيب المرجع الذي يخلفه ، وفي عرف بعض المرجعيات والقبائل يكون التنصيب وراثيا بصورة مباشرة ، أما إذا كان التنصيب غير وراثي أي اختيار المرجع ، في هذه الأثناء يجتمع رجال الرأي والمشورة ممن ينتمي إليهم المرجعية المتوفاة ، وخلال هذا الاجتماع يتم التأكد مما إذا كان قد أوصى بخلافة شخصية بعينها في حال وفاته ، إذا تبث بأنه قد أوصى لمن يخلفه عن طريق وصية مكتوبة أو بشهادة رجال معتبرين يتم مبايعة من أوصي له بخلافته إكراما للمرجع المتوفى لعلمهم بحكمته وبعد نظره وإنه لن يختار لهم إلا رجل كفؤ وأهل لهذا المنصب .
أما إذا لم يوصي بخلافة أحد ، يتم التشاور في الأمر بين من ذكرناهم آنفا ،ويكونوا الرجال المقترحين لتولي المنصب من نفس الدار ، على أن يكون التركيز في الصفات التالية (التدين والصدق والأمانة والكفاءة والثبات والشرع الوافي والصلاح والرشاد والحكمة والعدل والرزانة والنزاهة وبعد النظر والقوة والحزم في اتخاذ القرار وكذلك الإدراك والمعرفة والالتزام بالأعراف والعوائد والسوارح المتعارف عليها ).هو المعيار الأساسي لاختيار الخلف ، ومن خلال النظر في صفات تلك الشخصيات المقترحة يتم اختيار (الأفضل ) من بينهم .حينها تتم المبايعة له وأخذ المواثيق والعهود عليه بأن يحافظ على القيم التي ذكرناها وأيضا يعامل من أصبح حاكما عليهم بالتساوي في الحقوق والواجبات ،وأن لا يدخر جهدا في سبيل رفعة وشرف قومه والمحافظة على حدود وأرض وممتلكات ومصالح قبيلته ،وأيضا احترام الأحلاف والمواثيق التي تربط قبيلته مع المرجعيات والقبائل الأخرى، وبالمقابل يعاهده الدخلاء وعقال الديار بأن يكونوا عونا وسندا له طالما أنه ملتزم بما قطعه على نفسه من عهود، ويحضر التنصيب مرجعيات وواجهات من القبائل المجاورة ، ومن ثم يتم الإعلان عن تنصيبه أي أن ( فلان بن فلان أصبح خلفا للمرجع المتوفى رحمه الله تعالى ) ثم تستكمل مراسيم دفن المرجع الراحل .
ويمكننا في هذا السياق ذكر نماذج من اختيارات هذه المراجع ..
النموذج الأول :
” في أحد القبائل أوصى مرجع من مراجعهم قبل وفاته بأن يخلفه في المنصب شخصية من بيت آخر من دارهم رأى فيه ملامح الشخص المناسب لخلافته ، وبعد وفاته أجمع رجال الرأي والمشورة بعد ذكر الوصية على هذه الشخصية لتولي مكانة المرجع المتوفى ، وعلى إثر ذلك طُلبوا منه القبول بهذا التكليف فرفض التكليف بحجة أنه رجل بدوي لا يملك إلا خطامين من الإبل ، وكما هو معلوم بأن المرجع يجب أن يكون مستقرا لأن مسئوليته تتطلب استقبال الوافدين إليه، وفي تلك الأثناء تناظر الجميع وقرروا إجباره على القبول بالوصية وإكرامه بأرض في واديهم للبناء والزراعة والاستقرار فيها .. بعد ذلك وافق على قبول تلك المهمة التي كلف بها وأصبح له ولقبيلته شأن بتوليه ذلك المنصب حيث عد من المراجع البارزة في عصره رحمه الله تعالى .
والنموذج الآخر .. بعد وفاة مرجع أحد القبائل المعروفة ولم يوصي بخلافته لأحد .. ولم يتفق قومه من بعده على اختيار خلفه .. وكل شخص من الدار يطالب بأن يكون هو المرجع .. وعلى إثر ذلك الخلاف ..ذهبوا إلى حاكم للاحتكام في أحقية كل واحد منهم بهذا المنصب .. وعند وصولهم مجلس المرجع .. عرضوا عليه أمرهم .. وعرف من خلال حديثهم بأن لدى كل واحد منهم طموح بأن يكون هو المرجع .
قام هذا الحاكم الموفق بعملية اختبار لذكاؤهم ومقدرتهم على تحمل هذه المسئولية عبر إحضار فنجان ملئ بالقهوة لكل واحد منهم مطالبا إياهم بأن (لا يشرب أحدهم القهوة ولا يطيرها أي ( يفرغها ) ولا يعيد الفنجان ملئ بالقهوة ) فعجزوا جميعا… فقال لهم : هل يوجد أحد غيركم من نفس الدار ..فقالوا له : نعم باقي ولد صغير عند الإبل .. فطلب بإحضاره على الفور .. وعندما وصل المرسل إليه :أخبره بأن الحاكم يريده . قال له الشاب : ارجع لسيدك وقل له ( ما عندي سيّر ولا سلب ) .
هنا أدرك الحاكم بأن هذا الشاب شخصية غير عادية فأمر بإعطائه قهوة من البن وصبيغه ( معوز مطلي بالنيل ) لكون في ذلك الزمان يستوجب على الوافدين (المقتدرين ) إلى مجالس المراجع إحضار قهوة من البن وكذلك ملابس تليق بهم تقديرا منهم لمجلس الحاكم .
وبعد أن جلس ذلك الشاب في مجلس الحاكم ، أحضر له الفنجان وقال له نفس ما قاله لمن سبقه من جماعته .. فقام الشاب بإفراغ القهوة من خلال وضع أذبال الصبيغة بداخل الفنجان الممتلئ بالقهوة .. وأعاد له الفنجان فارغا .. حينها أمر المرجع بتنصيبه حاكما على قومه .. وقبل الجميع بالحكم .. وكان لهذا الشاب شانا في قبيلته والقبائل الأخرى .. رحمه الله تعالى .
أما الشق الأخير من سؤالك المتعلق بالتعامل مع المرجعيات التي لم تفي بعهودها وتنصلها عن مسئولياتها ، سبق وأن ذكرنا العهود و المواثيق التي قطعوها على أنفسهم عند تنصيبهم .. وفي حالة مخالفتهم لها وعدم التزامهم ، وبعد مراجعتهم من قبل دخلائهم وعقال الديار ولم تفلح تلك المراجعة .. يتم الإعلان عن عزل المرجع الذي لم يلتزم بما قطعه على نفسه من عهود ومواثيق .
وأيضا في حالة أن يحدث منه خطا جسيما ويرفض تصحيحه بعد مراجعته ، وكذلك عند كسره للحق .. أي ( يرفض أن يعدل ) تجمع عليه وجاهات ودخلائه لمراجعته إن لم يتراجع يتم عزله والإعلان عن ذلك بـ ( تطروبه ) و اختيار خلفا له .
نلتقي أعزائي الكرام بكم في الحلقة الثامنة بمشيئة الله تعالى .. وحتى ذلك الحين نتمنى لكم أسعد الأوقات وأطيبها .