“الواقع الجديد” الاثنين 28 سبتمبر 2020 / الكاتب رستم محمود
على مختلف وسائل الإعلام المحلية والدولية، ثمة سيل من الأخبار والتقارير المتداولة عن نقل تركيا لمئات المقاتلين السوريين المعارضين إلى أذربيجان، بالذات إلى المناطق الحدودية الملتهبة بينها وبين جارتها أرمينيا، حيث اندلعت معارك متقطعة بين البلدين خلال الأسابيع الماضية، تعرضت فيها حليفة تركيا، أذربيجان، لخسائر عسكرية فادحة، مقارنة بالخسائر الأرمنية.
التقارير التفصيلية عن الموضوع، أشارت إلى أن تركيا كانت قد أسست منذ أشهر معسكرا خاصا بالمقاتلين السوريين في منطقة شمال شرق مدينة حلب، لتخريج احترافيين “مرتزقة”، ليكونوا جاهزين للإرسال إلى أي جهة أو جبهة تريدهم أنقرة فيها.
وأفادت بأن الإغراء المادي هو العامل الأكثر جذبا لهؤلاء المقاتلين، حيث تتراوح مخصصاتهم الشهرية بين 1500 وألفي دولار أميركي في حالة مشاركتهم في المعارك، على أن تنخفض إلى نحو 500 دولار، فيما لو توقفت المعارك في الجبهات التي يرسلون إليها، في موقف مطابق لما طبقته مع المقاتلين السوريين الذين أرسلتهم إلى ليبيا.
وتمارس تركيا هذه الآلية العسكرية الأمنية مع المقاتلين السوريين، في وقت تنخرط فيه من جديد في سلسلة من المفاوضات والتنازلات السياسية الموسعة مع كل من روسيا وإيران، تأمل عبرها لإحراز مساومات سياسية مع البلدين، لتكونا عونا لتركيا ونظام الرئيس أردوغان في القضايا الإقليمية التي تواجهه، من ملف محاربة حزب العمال الكردستاني، مرورا بمحاولة خلق توازن سياسي مع اليونان ومن خلفها الاتحاد الأوربي، وصولا للملف الليبي.
وتسعى تركيا لإحراز ذلك، مقابل تقديم تنازلات واضحة لهاتين الدولتين في الملف السوري، بالذات في المناطق التي تسيطر عليها شمال غرب البلاد، وعلى حساب سكانها المحليين من السوريين.
ويدل مجموع ذلك على أن الإستراتيجية تركيا الأردوغانية صارت تعتبر السوريين ومسألتهم مجرد ملف للمساوات الإقليمية، ولإنتاج وتصدير المرتزقة وإرسالهم إلى مختلف الجبهات العسكرية والأمنية التي تنخرط فيها.
السؤال الكبير لا يتعلق بانكشاف التوجهات والنوايا التركية، بل يتعلق بالآليات التي استخدمتها أنقرة مع السوريين طوال السنوات الماضية، حتى تمكنت من كبح وبعثرة كل التطلعات السياسية التي كانت للسوريين مع بدأ الثورة السورية، وتحويلهم مع مسألتهم بالتقادم إلى مجرد مادة خام لتركيا ومصالحها الجيوسياسية، وتفصيلا بطموحات الهيمنة والتوسع التي يملكها أردوغان والمحيطون به من قادة حزب العدالة والتنمية.
مرت تلك الآليات التركية عبر 4 مراحل متمايزة، كانت كل واحدة منها تسعى لخلق نوع “الإخضاع السوري” للأجندات التركية، حتى صارت بالتكامل فيما بينها قادرة على التعامل مع السوريين كمجرد مقاتلين مرتزقة.
فمنذ الأسابيع الأولى لاندلاع الثورة السورية في مارس 2011، استضافت تركيا قادة حركة الإخوان المسلمين السورية وقدمت لهم كل أشكال الدعم والرعاية، بطريقة جعلت خطاب هذه الجماعة وتوجهاتها السياسية تطغى على باقي الأصوات والتوجهات السياسية السورية.
فالإخوان السوريون صاروا يعقدون الندوات الإعلامية والتحالفات السياسية في إسطنبول، وشكلوا نوعا من التحالف مع تنظيمات “المجتمع المدني” التركية القريبة من حزب العدالة والتنمية، التي كانت ترعى وتوجه عددا لا بأس به من الناشطين السوريين.
ومع التقادم، صارت تركيا تمارس أشكال الرعاية والدعم لكل القوى الإسلامية السورية، التي طغت وهيمنت على المشهد السياسي السوري.
فعل ذلك السلوك التركي الكثير من الأشياء، لكنه أولا حور من التوجهات السياسية والمدنية للسوريين، لتصبح الثورة السورية غطاء لحرب الأهلية مستترة بين أبناء الطائفتين السوريتين السنية والعلوية.
عكرت تلك الإستراتيجية التركية كل التطلعات السياسية “النبيلة” للسوريين، التي كانت تتمثل في نيل قدر وفير من الحرية والكرامة الآدمية، لتصبح سوريا ساحة صراع طائفي محلية وإقليمية، وهو أمر حطم ولوث وعي الثوريين لأنفسهم ولقضيتهم، وبالتالي سهل إعادة استخدامهم لصالح تركيا، كمجرد مقاتلين بالمال.
بالتوازي مع ذلك، فإن تركيا كانت الدولة الإقليمية الأكثر حماسة لاختراق وتهشيم القرارات الدولية الخاصة بسوريا، بالذات قرار مجلس الأمن 2254، الذي كان ولا يزال أهم الأطر السياسية التي يمكن لها أن تحقق طموحات السوريين بوطن حر وعادل.
فعلت تركيا ذلك عبر مشاركة إيران وروسيا في “اجتماعات أستانة” للحوار بين الدول الثلاث، تلك المنصة التي تعتد بمصالحها وتطلعاتها في استغلال الحالة السورية، أكثر بكثير من انشغالها بطموحات السوريين وحقوقهم العادلة.
آلية أستانة التي شرّعتها تركيا حولت الساحة السورية إلى واحدة من عدة جبهات إقليمية تتصارع فيها القوى النافذة، وبالتالي فتحت الباب أمام إمكانية نقل المقاتلين السوريين من موقع لآخر، “طالما هي حرب واحدة بمعارك وجبهات متعددة”، بالضبط مثلما نقلت مقاتلين آسيويين وقوقاز وبلقان من قبل إلى سوريا.
بالترادف مع ذلك، أدخلت تركيا السوريين في حرب أهلية مختلقة تماما، بالذات عبر تحويل الأكراد إلى أعداء مفترضين لباقي السوريين، وتأسيس وإغراء تنظيمات سوريا لتخوض حروبا مناهضة للأكراد السوريين، لكن كعصابات مسلحة تعتاش على النهب العام، هذه التشكيلات التي صارت بالتقادم القوة الأكثر فتكا في الساحة السورية، لأنها كانت تستند على الدعم التركي والقوة المحضة ولا تعتد بأي تطلع سياسي، وبالتالي مستعدة للحرب في أي مكان كان طالما ثمة عوائد مالية من جراء ذلك، سواء داخل سوريا أو خارجها.
أخيرا، فإن تركيا كانت متأكدة من أن تحوير وعي وتطلعات السوريين غير ممكن من دون بيئة اجتماعية واقتصادية مناسبة وملبية لذلك، وفي هذه النقطة بالذات تلاقت الطموحات التركية بما يناظرها من سلوكيات للتنظيمات المتطرفة، التي تخلق شكلا من الهيمنة الاقتصادية والإيديولوجية المطلقة في مناطق سيطرتها، وبالتالي تخلق جميع الدواعي التي تدفع الشبان العاطلين عن أي عمل ودون أي تعليم لأن يفروا من دائرة البؤس المحيطة بهم من كل حدب، حتى لو كان الأمر يقتضي أن يتحولوا إلى مرتزقة، فكل شيء أكثر هوانا على قلوبهم من الموت البطيء وفاقة العيش التي يواجهونها مع ذويهم المحطمين كل حين