“*الواقع الجديد*” الاثنين 7 سبتمبر 2020 / خاص
لا يملك اللبنانيون ترف التمرد على ما سارع البعض إلى تسميته “وصاية” فرنسية.
تصدعت هياكل لبنان الاقتصادية، انهارت قيمة عملته، انكشفت أسطورة نظامه المصرفي، فقد اللبنانيون ودائعهم المالية، واتضح أن تقاطع الفساد والسلاح يفتك بوجودهم ويدمر عاصمتهم. أفلس لبنان، أفلس اللبنانيون، أفلست الطبقة السياسية التي باتت عاجزة برعاية حزب الله عن نفخ حكومة يقبل بها العالم، عربا وعجما. وحين هبط إيمانويل ماكرون لم يصدق ساسة البلد قبل مواطنيه أن “ملاكا” ترجل لانتشالهم.
ماكرون ليس ملاكا وليس فاعل خير. لفرنسا علاقات تاريخية مع لبنان تعود لنشأة هذا البلد منذ مئة عام. غير أن هذه العلاقات لم تكن كافية لصون نفوذ باريس في لبنان وتعزيز حضورها. قيل أن يدا سورية اغتالت السفير الفرنسي لويس دولامار في بيروت عام 1981، وأن يدا إيرانية هاجمت مقرا للجنود الفرنسيين في لبنان فقتل 58 منهم عام 1983. تقدم التنافس الأميركي السوري الإيراني الإسرائيلي، وبات حضور فرنسا متراجعا غير مؤثر في ترتيبات البيت اللبناني.
ومع ذلك بقيت فرنسا “الأم الحنون” التي يرتضي اللبنانيون حنانها. أطلق الراحل جاك شيراك مطلب المحكمة الدولية إثر مقتل صديقه رفيق الحريري عام 2005. نظمت باريس المؤتمر الدولي تلو الآخر لنجدة اقتصاد لبنان، بما في ذلك “سيدر” الذي أسس لشرط الإصلاح الذي بات دوليا معمما لا تنازل عنه قبل الإفراج عن أي دعم مالي لاقتصاد لبنان.
ما زالت فرنسا تمتلك مفاتيح العمل داخل الدهاليز اللبنانية. لباريس حضور عسكري وازن داخل قوات اليونيفل الأممية في جنوب لبنان، وتمتلك علاقات جيدة مع كافة القوى السياسية اللبنانية بما في ذلك حزب الله. امتنعت فرنسا، حتى الآن، عن السير على منوال دول أوروبية أخرى، لا سيما ألمانيا وبريطانيا، في اعتبار حزب الله تنظيما إرهابيا. وما زالت باريس متمسكة بسياسة، أكدها ماكرون في بيروت، تكتفي بوضع الجناح العسكري للحزب على لوائح الإرهاب. وعلى هذا بدا أن فرنسا، وماكرون بالذات، الوحيدان القادران على إحداث خرق دولي فارق داخل ملف يزداد تعفنا ويمثل انفجاره خطرا على حسابات الكبار والصغار.
من خلال الفلاحة في الحقول اللبنانية ينتقل ماكرون للزرع في بساتين العراق. يسبح الرجل في بركة تتشارك واشنطن وطهران في التحكم بمائها. ويسير قطار الرئيس الفرنسي على سكتين، سكة إيرانية وسكة أميركية. ويرتبط نجاح مسعاه بثباتهما. فإذا ما أسقط الأميركيون رعايتهم لهمّته ورفض الإيرانيون التعامل معها، فإن فرنسا لا تملك بقواها الذاتية تسيير قطارها في حقول ألغام المنطقة وفخاخها.
بنت فرنسا مفاعل تموز النووي الذي دمرته إسرائيل في يونيو 1981. لكن الحدث كشف عن حميمية العلاقة الفرنسية العراقية، حتى لو أن تلك الحميمية تختلف عن العلاقة مع لبنان. كان صوت الرئيس الراحل فرنسوا ميتران مرتجفا حين أعلن لمواطنيه بدء الحرب لتحرير الكويت عام 1991. استقال وزير الدفاع جان بيار شوفمنمان اعتراضاً. عام 2003 رفض الرئيس شيراك مشاركة بلاده في الحرب ضد العراق، وألقى وزير خارجيته دومينيك دوفيلبان مطالعته الشهيرة في مجلس الأمن التي باتت نصا يدرس في فن الخطابة الدبلوماسية المُدينة لحرب واشنطن ضد بغداد.
وفق خلفيات الماضي ووقائع الحاضر يتحرك ماكرون داخل لبنان والعراق مظهرا أعراضا سياسة خارجية حيوية في المنطقة. لباريس علاقات ممتازة مع القاهرة ودول الخليج، وتستقبل ملك الأردن هذه الأيام، وتطور علاقات حساسة مع دول شمال أفريقيا. تقود فرنسا ورشة أوروبية لمواجهة استحقاقات ليبيا وصراغ الغاز في المتوسط، وهي رأس حربة صلبة لمواجهة تركيا وطموحات زعيمها.
يمثل ماكرون في لبنان عزيمة دولية وبركة أميركية لم يتردد في تهديد من يعرقل مسعاه بهما. ويمثل ماكرون في العراق ملاقاة أوروبية لجهود أميركية لرفد حكومة مصطفى الكاظمي في بغداد.يستدعي الرجل خصومته مع أردوغان درعا مُيسِّراً لمناوراته في ميادين نفوذ إيران. تقصّد في زياراته انتقاد التدخل التركي في العراق، وذهب إلى إقليم كردستان ممعنا في إدانة سلوك أنقرة هناك. أثار قبل ذلك في لبنان محاولة تركيا التدخل في شؤون هذا البلد.
وحين تكلم عن السيادة والاستقلال فهمت أذرع إيران في البلدين أن لعزفه مزاجا تركيا يختلف عن صخب العزف الأميركي ذي العبق الإيراني بامتياز.
ربما أن لماكرون طموحات نابوليونية تتوسل استعادة فرنسا لدور وازن في المنطقة. يعمل الرجل في الوقت الضائع حتى تتحدد هوية الرئيس الأميركي المقبل. يدرك ماكرون أن تسويات تركية إيرانية أميركية روسية مقبلة، ويود الرجل أن تكون فرنسا حاضرة في تلك الأعراس.