“الواقع الجديد” الجمعه 4 سبتمبر 2020 / متابعات
داخل محلها الصغير الذي أضر به انفجار بيروت المروع، تنكبّ كلوديت على خياطة تنورة على ماكينتها القديمة الطراز التي تمكنت من إنقاذها، ورغم المأساة التي أصابت حيها وحياتها، تعلم أن الاستسلام ليس خياراً إذا أرادت مواصلة تأمين قوت عائلتها.
وتلملم الأحياء المجاورة لمرفأ بيروت جراحها مع حركة خجولة في أزقتها، بعد شهر من فاجعة أودت بحياة 191 شخصاً على الأقل وأصابت أكثر من 6500 آخرين بجروح، إلى جانب 7 مفقودين على الأقل، وفق تقديرات رسمية.وأحيا رصد فريق بحث تشيلي متخصص “نبضات قلب” تحت ركام مبنى في شارع مار مخايل المنكوب، آمالاً في العثور على شخص حي، وتنكب فرق الإنقاذ منذ أمس الخميس على البحث بين أنقاض المبنى عما يشبه “المعجزة”.
وتقول كلوديت، 60 عاماً، من داخل محلها في شارع الجميزة المجاور لمار مخايل “دمر كل شيء هنا، لكنني قررت البدء من جديد، لأنه ليس لي خيار آخر”.وتضيف “زوجي لا يعمل، وابني طُرد من عمله بسبب الأزمة الاقتصادية، لديه ولدان وإيجار منزل، وأنا مضطرة لمساعدته” في خضم أسوأ انهيار اقتصادي تشهده البلاد منذ العام الماضي، حرم عشرات الآلاف من وظائفهم أو جزءاً من مداخيلهم.
وعاودت بعض المحال فتح أبوابها في الشارع الذي يعد بين الأكثر تضرراً من انفجار المرفأ المواجه، وتكفلت منظمة غير حكومية باستبدال واجهة محل كلوديت المحطمة بأخرى جديدة، بينما تولت هي كلفة إصلاح ماكينة الخياطة.ومنذ الانفجار، يعمل أفراد منظمات، ومتطوعون، وعمال مثل خلية نحل في الأحياء التي لحقها الدمار، يحصون الأضرار، ويوزعون المساعدات، والمواد الغذائية التي تتدفق على لبنان من دول عدة، ويساعدون السكان على استبدال أبواب منازلهم ونوافذها.وتخشى كلوديت أنها خسرت زبائنها، وتقول: “غالبيتهم كانوا يعيشون هنا في الشارع، ومعظمهم غادروا، أخشى ألا يعودوا”.وعلى بعد أمتار من محلها، تفوح رائحة شطائر الصعتر المخبوزة في فرن أعاد فتح أبوابه، بعد تأهيله من الصفر، بسبب أضرار كبيرة لحقته، ويقول مالك الفرن حكمت قاعي: “نحاول قدر المستطاع أن نستعيد الحياة لسبب واحد، وهو أنّه يبقى لنا أمل في هذا البلد وفي المستقبل رغم كل شيء”، ويصف ما يفعله بـ “مقاومة”.
وقدر البنك الدولي قيمة الأضرار والخسائر الاقتصادية الناتجة عن الانفجار بما يتراوح بين 6.7 و8.1 مليارات دولار، بينما يحتاج لبنان بشكل عاجل إلى ما بين 605 و760 مليون دولار للنهوض مجدداً.وقبل الانفجار، كان شارع الجميزة المعروف بأبنيته ذات الطابع التراثي، وبمقاهيه، وحاناته، ينبض بالحياة، وبزحمة لا تتوقف ليلاً نهاراً، واليوم، ورغم رفع الركام من بعض نواحيه وإزالة أطنان الزجاج الذي تطاير في كل ناحية وصوب، لا يزال يفتقد حيويته المعهودة.ولم تسلم “قهوة إيمان” في زقاق متفرع عن الشارع الرئيسي، من الانفجار الذي ألحق أضراراً كبيرة بها طالت تجهيزات المطبخ الرئيسية.ويوضح محسن الذي يتولى إدارة المقهى، أن القيمين على المكان، وبعد أعمال تأهيل طفيفة، يكتفون حالياً بتقديم السندويشات، وهناك وجبات لا يقدرون على إعدادها بعد، ويقول: “يسير أعمالنا اليوم المتطوعون والجمعيات”، مضيفاً “يأتون إلينا لتناول الطعام”.
وفي شارع مار مخايل، يقول شاب جلس مع أصدقاء في إحدى الحانات القليلة التي فتحت أبوابها: “هذه طريقتنا في المقاومة، سنواصل الاحتفال بالحياة”.وشرد الانفجار نحو 300 ألف ساكن في بيروت بعد تضرر منازلهم أو دمارها وانقطاع الخدمات الأساسية عنها، وفي حانة أخرى عُلقت على واجهتها صورة روان، نادلة قضت في الانفجار وتصدّرت قصتها وسائل الإعلام بعدما بكتها عائلتها وصديقاتها، يعاود بعض الزبائن التردد على المكان بعد فتح أبوابه وإصلاح الأضرار.ويقول مالكها إيلي خوري: “لم نُعِد فتح أبوابنا من أجل جني المال، أعدنا فتحها لنظهر أن الحياة يجب أن تستمر، إنها رسالة حياة”، ويضيف “تعرضنا في تاريخنا لحرب، وقصف، وانفجارات، وفي كل مرة كنا ننهض من جديد، وسنواصل فعل ذلك، إنها معركتنا، هي معركة وجود”