“الواقع الجديد” الثلاثاء 1 سبتمبر 2020 / مقال للكاتب / عبدالاله بلقزيز
شهدتِ المعرفة الغربيّة للإسلام: ديناً وتراثاً تاريخيّاً وثقافيّاً، وللعرب: مجتمعات وقيّماً وثقافة على نقلة نوعيّة كبيرة في العصر الحديث، خاصّة بدءاً من مطلع القرن التّاسع عشر مع ميلاد الاستشراق، كميدانٍ دراسيّ متخصّص بدراسة شعوب الشّرق ومجتمعاتها وتراثاتها، ومنها شعوب العرب والإسلام.
ولقد وفّر لهذه النَّقلة المعرفيّة إمكانَها الموضوعيّ انصرافُ الدّارسين الغربيّين للشّرق (= للإسلام) إلى تعلُّم لغات الشّرق، قصد الاتّصال بمصادر ثقافتها في مظانّها لا من طريق التّرجمات، الأمر الذي تحسّنت معه الأدواتُ والوسائل التي بها تكون المعرفة؛ مثلما وفّرها لها حيازة المستشرقين – من طريق دولهم وجامعاتها ومكتباتها- على مخزونٍ هائلٍ من المخطوطات القديمة من كتب ورسائل تنتمي إلى مجالات من العلم والمعرفة شتّى، لم يكن معظمُها في حوزة أبناء الشّرق، والقليلُ منها حُفِظت منه نسخ في مكتبات الشّرق واطّلَع عليه المُتخصّصون من الدّارسين فيه.
ليس من الجائز أن نضع المعرفة الاستشراقيّة للإسلام في كفّة الميزان عينِه مع المعارف اللاّهوتيّة المسيحيّة الوسطى للإسلام، لأنّ التّوازن شديدُ الاختلال لصالح الاستشراق.
قد يكون بعضُ الاستشراق، أو كثيرُه، احتفظ من تلك المعرفة السّابقة بغيرِ قليلٍ من تمثُّلاتها وصُورها النّمطيّة عن الإسلام والمسلمين، وربّما يكون ردّدها أو أعاد إنتاجَها بأشكال جديدة مختلفة، غير أنّ الفارق شاسع بين المعرفتيْن على أكثر من صعيد: على صعيد درجة العلم بالموضوع؛ حيث هي أوسع وأعلى في الاستشراق المتخصّص؛ الذي لم يَكْتَفِ بالنُّتَف والملخّصات والمتَرجمات القليلة عن الإسلام ومصادره؛ وعلى صعيد مناهج الدّرس؛ حيث سخَّر الاستشراق من مناهج العلوم الاجتماعيّة ما أتاحَهُ له عصرُهُ ممّا لم يكن متاحاً للفلاسفة واللاّهوتيّين القدماء؛ ثم على صعيد الصّلة النفسيّة بالموضوع المدروس؛ فالمستشرقون ما كانوا يكتبون عن الإسلام تحت تأثير الشّعور بالخوف من تهديده، كما كان الأمر عند اللاّهوتيّين المسيحيّين، بل كتبوا عنه ما كتبوه في لحظةٍ كانت فيها مجتمعاتُهم الغربيّة متفوّقة بحيث لم تعد تخشى جانب مجتمعات الإسلام، أو أن يكيّف شعور الخوف ذاك معرفتهم له فيطبعها بطابعِ تأثير المؤثِّر.
على أنّ الاستشراق لم يكن كلُّه نظاماً من الفكر موحَّداً و، بالتالي، ما كانت معارفه على السّويّة عينِها من القيمة والجودة. كان فيه، من جانبٍ، الجَهْد العلميّ الرّصين؛ في تحقيق النّصوص وقراءتها، وفي تحليل المادّة المدروسة، وفي بناء الاستنتاجات العلميّة حول الموضوع المدروس. وكان فيه، من جانبٍ آخر، الكثير من الهَتْر والشّطط في الأحكام، ومن الكيْديّة وأحكام القيمة التي لا تنتمي إلى العلم وتقاليده. وبكلمة، كان ساحةً لعملِ تيّاريْن متقابليْن: تيّار الاستشراق العلميّ وتيّار الاستشراق الإيديولوجيّ:
اقترن الإيديولوجيُّ في الاستشراق باقتران بعضِ الاستشراق بالمشروع الكولونياليّ الأوروبيّ في القرنين الثّامن عشر والتّاسع عشر. قدَّم ذلك النّوع من الاستشراق نفسَه بوصفه الجهاز الذي سيوفّر لِلمؤسّسة الكولونياليّة حاجتها من الموادّ المعرفيّة عن المجتمعات المستعمَرة. لقد أنتج معارفَه تحت الطّلب السياسيّ (= الكولونياليّ)، وكان عليه أن يكيّف نفسَه مع حاجات المؤسّسة و، أحياناً، مع المزاج العامّ لموظّفيها وضبّاطها وساستها العاملين في المستعمرات.
ولقد بدا هذا النّوع من الاستشراق – رغم ما أغدِق عليه من الدّول والشّركات من إنفاقٍ ودعم- عديمَ الفائدة والجدوى، لأنّ معارفَه غيرُ موضوعيّة، ومكيَّفة بحيث ترضي خيارات المشروع والمؤسّسة الكولونياليّين. كما أنّه بدا، لأبناء المستعمَرات، حاقداً وكيْديّاً وغيرَ منصف؛ وهمُ لذلك لم يقيموا له أيّ اعتبار حين أمكنَ لمجتمعاتهم أن تتحرّر من الاستعمار وتنال استقلالها الوطنيّ. وهو، إلى ذلك، لا يحتلّ أيّ مكانة اعتباريّة في التاريخ الإجماليّ للاستشراق، ولا يعزّز رصيد الغرب معرفيّاً.
أمّا الاستشراق العلميّ فاستحقّ الصّفةَ هذه لأنّ جدولَ عمله كان فكريّاً ومعرفيّاً، في المقام الأوّل، ولم يقدِّم السُّخْرةَ لأيّ مشروعٍ سياسيّ مُعادٍ لبلدان الشّرق والإسلام وشعوبها. كان مدفوعاً بفضولٍ معرفيّ هو جزءٌ من إرادة المعرفة فيه، من أجل تكوين معرفيّة علميّة بالموضوع الذي يتناوله.
لذلك حظيَ بالتّقدير في البيئات الأكاديميّة الغربيّة كما في المجتمعات الثّقافيّة في بلدان الشّرق والإسلام، خاصّةً في بيئات المهتمّين بالدراسات الشّرقيّة والإسلاميّة. وإذا كان قد قُدِحَ في الاستشراق، طويلاً، وشُنِّع عليه من قِبل التيّارات الأصاليّة العربيّة والإسلاميّة. فقد أُخِذَ الاستشراق العلميّ الموضوعيّ، في ذلك التّشنيع، بجريرة الاستشراق الإيديولوجيّ ومهاتراته؛ وذلك، قطعاً، ممّا لا يجوز.
ومع ذلك، مع وجود هذا التّراث الضخم من الاستشراق، خاصّةً من الموضوعيّ والمنصف، سيظلّ من العسير القول إنّ الوعي الغربيّ تحرَّر من تأثيرات تلك التمثّلات الموروثة وتلك الصّور النّمطيّة التقليديّة عن العرب والإسلام؛ ليس فقط في دائرة الرّأي العامّ، بل حتّى في أوساط النّخب العلميّة والثّقافيّة.