الأربعاء , 25 ديسمبر 2024
19_1563718706139.jpg

الإمارات وبوّابة السلام الذهبية

“الواقع الجديد” الأربعاء 19 اغسطس 2020م /اميل امين

حتمًا حرّكت الإمارات العربيّة المتّحدة مياهَ السلام الراكدة في بحيرة الشرق الأوسط المليئة بالشوائب التاريخيّة، تلك التي تحتاج إلى الرجال الأشدّاء، أصحاب الهمم العالية لتخليصها من إرثها التاريخيّ المشحون بالتشارع والتنازع طوال نحو ثمانية عقود.

يبقى السلام قيمة يوتوبيّة عالية وغالية، وفي الوقت عينه يظلّ الصراع ملمحاً وملمساً للطبيعة البشريّة، منذ أن كان تعداد الخليقة لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، وهنا تتجلّى المقدرة الحقيقية على الاختيار، بين الأصعب والأشدّ مِراسًا وهو السلام، والأيسر والأكثر دمارًا ومرارًا وهو الخصام والحروب.

حين أشار مستشار الأمن القوميّ الأميركي، روبرت أوبراين إلى أنّ ما قامت به الإمارات يُعَدّ بمثابة إعادة فتح البوّابة الذهبيّة للسلام في الشرق الأوسط، فإنّ الرجل لم يتجاوز حقيقة المشهد أبدًا، بل أصاب كبد الحقيقة، فقد تعطّلت المياه المتدفّقة بالأمن والأمان، الطمأنينة والسلام في منطقة هي الأجدر بأن تحمل السلام للعالم، من منطلق أنّها مهبط الوحي وتنزُّل الرسالات السماويّة فيها.

يدفعنا اختيار اسم الاتّفاقيّة، أي الاتّفاق الإبراهيميّ إلى البحث عميقًا في العلاقة ما بين الجذور الإبراهيمية لسُكّان الشرق الأوسط، وبين عمليّة السلام المنشودة والمرغوبة، والتي تحمل الإمارات اليوم رايتها، بعد أن رفعتها مصر المحروسة عاليةً قبل أربعة عقود ونيّف.

 قبل أن تتنزَّل الأديان على الأنبياء كانت الفطرة الطبيعيّة التي خُلِقَ الإنسان عليها تؤكِّد رفض القتل والاقتتال، وضرورة تعلية مفاهيم السلام.

وبتسلسل ظهور الأديان يجد المرءُ مكانةً واضحة لفكرة السلام العالميّ في كلّ دين، على أساس أنّ مصدر الأديان التوحيديّة واحد، وهو إله محبٌّ للسلام رئيس للسلام، والسلام اسمٌ من أسمائه الحسنى المائة.

والثابت أنّه في عقيدة كلّ يهوديّ ومسيحيّ ومسلم، لا يستقرّ العالم في نفسه، بل يصدر في كلّ لحظة من الخالق سبحانه ومن قدرته اللاهوتيّة الإلهيّة، وما يفعله الإنسان كجزء من الخليقة هذه عليه أن يؤدّي عنه حسابًا أمام خالقه الذي سيرجع إليه.

هذا الإيمان يربط بين المسيحيّين والمسلمين واليهود، في نطاق عميق مشترك، وإن اختلفوا في قضايا أخرى. هذا النطاق الذي نحن بشأنه نطاق مشترك أعظم وأعمق من كلّ ما هو مختلف بينهم. هل من نتيجة أوليّة ما لهذا الإقرار المبدئيّ؟

 من دون جدال يمكننا القول إنّ هذا الإيمان يعترف بأنّ الله هو وحده الإله الحيّ القيّوم، وهو مصدر السلام، لذا فإنّ كلّ شيء آخر، وأيّ قيمة أخرى مضادّة للسلام، أو تحاول أن تُنَصِّب نفسها شيئًا مطلقًا، تُعَدّ طاغوتًا مرفوضًا، يتوجّب على أتباع التوحيد لا مساءلتها فحسب، بل الإعراض عنها والعمل بجدّ في مواجهتها، لأنّ الإيمان الذي تحثُّنا عليه المسيحيّة والإسلام اليهوديّة يقول إنّ الله هو الحقيقة المطلقة الواحدة والوحيدة، وكلّ ما سواه نسبيٌّ يأتي منه كمخلوق ويعود إليه في مصيره..

هل الأديان مصدر مقاربة أوّليّة للسلام بين البشر؟

 يقرّر المفكر العربيّ الكبير د. محمد عابد الجابري هذا الأمر، ويرى أنّه رغم وجود فروق واختلافات بين الأديان الثلاثة في تقرير الحاجيّات والتحسينات التي تحتاجها الإنسانيّة، إلّا أنّها ثلاثتها تتّفق على ضرورات كانت ضمن رسالة كلّ نبيّ وهي:

 **حفظ النفس

 **حفظ العقل

** حفظ المال

**حفظ الدين

وجعلوا من هذه الضرورات أصلاً للحاجيّات والتحسينات والتكميلات .

 تصلح المنطلقات المتقدّمة كبناء لتصوّر مشترك لثقافة السلام، ذلك لأنّها أساس كلّ سلام ومن دونها لا يتحقّق السلام، لا السلام مع النفس، ولا السلام مع الجار، ولا السلام بين الأمم..

 ولا يتوقّف الأمر عند هذا فقط، بل إنه بالإمكان كذلك تأسيس رؤية جديدة سلميّة وسليمة للمشاكل والتحدّيات التي يواجهها الضمير الدينيّ والأخلاقيّ في عصرنا والتي تغذّي الخصام وتنزع السلام.

وممّا لا شكّ فيه أن رسالة الأديان كافّة من دون تخصيص هي رسالة سلام، فهي تسليم لله تعالى بالوجود، وتسليم لقانونه ونواميسه الإلهيّة بالاحترام والتقديس والالتزام.

من هذه الضوابط “السلاميّة” للأديان إنْ جاز صكّ هذا المصطلح، يتكشّف للمرء أنّ كافّة خطوط وخيوط القوانين واللوائح والشرائع الوضعيّة محلّيّةً كانت أو دوليّةً، إنما وُجِدت من أجل تعزيز السلام بين المرء وخالقه والإنسانيّة وبعضها بعضاً، وكذلك بين الدول والقارّات حول البسيطة، ما يعود بنا إلى الأصل، أصل مدينة الله، تلك التي تحدّث عنها” أوغسطينوس “الفيلسوف والقدّيس” في رائعته التي ضمّنها كتابه الشهير، حتّى وإن بعد عنها الإنسان بفعل أوهام السيطرة وصبغ أو محاولة صبغ الزمان والمكان ببصمة استعلائيّة لا تَتَّسق والمشيئةَ الإلهيّة في استخلاف الإنسان للأرض وجعله قَيِّمًا عليها منذ خلقه وحتّى قيام الساعة.

بوّابة السلام الذهبيّة التي تفتح الإماراتُ أبوابها مشرعةً وواسعة اليوم، تنطلق في اسمها ورسمها من حقيقة الأخوّة الإنسانيّة التي كَرّست لها وثيقةٌ باتت من أهم أوراق العالم المعاصر، بل لا نغالي إن قلنا إنّها امتدادٌ لوثيقة “في عصرنا الحاليّ”، والتي غيَّرت علاقات أبناء ابراهيم منذ أن صدرت عن المجمع المسكونيّ الفاتيكانيّ الثاني في روما عام 1965.

هل من ضرورة لإعادة التاكيد على أنّ الإمارات العربيّة المتّحدة يومًا تلو الآخر تضحي رسالة أكثر منها دولة؟

ما تحمله الإمارات للعالم نموذج خلّاق للتعايش الإيمانيّ والوجدانيّ، حيث الثورة القائمة والقادمة على تابوهات الراديكاليّات القاتلة، وأصحاب دعوات الصدام المهلِكة للزرع والضّرْع.

إنّه وقت السلامِ الذهبيّ، وحمل البشرى السارّة للمسكونة وساكنيها.

 أحلى الكلام: ” فَيَطْبَعُونَ سُيُوفَهُمْ سِكَكًا وَرِمَاحَهُمْ مَنَاجِلَ. لاَ تَرْفَعُ أُمَّةٌ عَلَى أُمَّةٍ سَيْفًا، وَلاَ يَتَعَلَّمُونَ الْحَرْبَ فِي مَا بَعْدُ”.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.