“الواقع الجديد” الثلاثاء 11 اغسطس 2020م /الكاتب والمحلل السياسي/ اميل امين
من غير تهوين أو تهويل، يمكن اعتبار الاتّفاقية المصرية اليونانية التي جرت بها المقادير قبل بضعة أيام، لطمة قاسية للأطماع التوسُّعية غير المشروعة لأردوغان في مياه البحر الأبيض المتوسّط.
أردوغان لا يجابه دول المنطقة ولا يصارعها أو ينازعها، إنما يفعل ذلك كلّه تحدّيًا للقدر الذي حرم بلاده من وجود النفط والغاز والثروات الطبيعيّة في حدودها البحرية الإقليمية، ولهذا يسعى إلى بسط سيطرته على المناطق الاقتصاديّة الخاصّة بدول أخرى، ماضيًا في طريقه على أَسِنّة الرماح وراكبًا البحر بالقوّة العسكريّة.
هل الاتّفاق الذي جرى بين مصر واليونان اتفاقٌ قانوني يتّسِق مع الشرائع الدولية؟
باختصار غير مخلٍّ، ومن دون الإغراق في التفاصيل التي لا تهم غير المتخصصين في القانون الدولي، نقول إن قانون البحار الدولية ينص على أن لكل دولة 12 ميلًا بحريًّا مياهًا إقليميّة، و200 ميل بحريّ مياهًا اقتصاديّة، وأنه إذا كانت المسافة بين دولتين أقل، فإنّه لا بدّ من اتّفاق ثنائي لتعيين الحدود بينهما.
قبل توقيع الاتّفاقية كانت أصوات عديدة تتساءل: “هل من خلاف مصري – يوناني على ترسيم الحدود البحرية بينهما؟
يمكن القول إن العلاقات المصرية اليونانية قديمة وضاربة في جذور التاريخ، أي من زمن التنافح والتثاقف الفرعوني – الإغريقي، وحتى اليوم، ولعلّه كذلك من الطبيعي، وضمن حركة الحياة ونواميسها، يمكن أن تطفو على السطح بعض الاختلافات في الرؤى والتوجهات.
في هذا الإطار يمضي العقلاء إلى بلورة الحلول وتذليل العقبات، بهدف تعظيم الاستفادة، أمّا الحمقى فلا يعرفون سوى لغة البطش والسيف الذي باتوا يظهرون به على المنابر المغتصبة.
في الثامن عشر من يوليو/ تموز الماضي، زار وزير الخارجية اليوناني مصر، على رأس لجنة من الخبراء اليونانيين، وطوال ستة اجتماعات مكثفة مع نظيره المصري، تدارس الجانبان جوانب المشهد كافة والحدود البحريّة بين الدولتين الصديقتين، وبحثا كل الجوانب السياسية والقانونية، الاقتصادية والاستراتيجية للاتّفاق، وبما أزال أي اختلافات ووَحَّد الإرادة المصرية اليونانية الساعية إلى تعظيم الاستفادة والتعاون المشترك من خيرات “البحيرة الكبرى”، كما أطلق أهل الجزيرة العربية، قبل ألفي عام على البحر اﻷبيض المتوسط.
الاتّفاق الجديد بين القاهر وأثينا، يفتح أبوابًا واسعة للتعاون في مجال الطاقة والاستفادة من الثروات المتاحة في المنطقة الاقتصادية، ولا يتوقّف تأثيره الإيجابي على العاصمتين المصرية واليونانية فقط، لكنّه يأتي ليُشَكّل الضلع المتبقّي من المثلث المرعب لأردوغان، والذي بدأ باتّفاقية ترسيخ حدود بين اليونان وإيطاليا، وكانت قد سبقتها اتّفاقية بين اليونان والحكومة الشرعية الليبية المتمثلة في البرلمان الليبي المنتخب.
السؤال المثير: “لماذا جُنَّ جنون تركيا – أردوغان، والتي أطلقت خارجيتها تصريحات لا علاقة لها بمهامها الدبلوماسية، تصريحات جاءت أقرب ما تكون لتهديدات العصابات الميليشياوية؟
الثابت أن الاتّفاق الأخير الذي جرى قبل أيام في القاهرة يقطع الطريق على الأحلام الليلية الصيفية اﻷردوغانية، والتي هي في واقع الحال أقرب ما تكون إلى الكوابيس، والتي حاولت حكومة أردوغان النفاذ من خلالها إلى مياه المتوسط وثرواته، عبر العلاقة مع حكومة الوفاق المُنحَلّة، والتي باتت مظلة تجمع من تحتها الدواعش والمرتزقة، عطفًا على بقية صنوف وألوان من الإرهابيين.
خُيِّل للعثماني المحتل والمختل، أن القاهرة وأثينا سوف تحول الخلافات بينهما حول المربّع رقم 10 في مياه المتوسط دون التوصُّل إلى اتّفاق، وفاته أنه يتحدّث عن دولتين لهما جذور تاريخية وإنسانية، وترفدهما حضارة فلاسفة ومفكّرين، علماء وعباقرة في المجالات، أيّ إرث عقلاني يسمح لهما بتغليب صيغة الجميع فائز، وصرف النظر عن فكرة المعادلة الصفرية التي لا يؤمن بها إلا أحادي الرأي ، من أصحاب القوى الشيطانية المترجلة من غير تاريخ أو حضارة، مثل تركيا، على حدّ تعبير علامة الجغرافيا في القرن العشرين الراحل الدكتور جمال حمدان.
أغلق اتّفاق ترسيم الحدود المصري اليوناني، والذي جرى وفقًا لقوانين البحار الدولية وخرائط اﻷمم المتّحدة وخطوط الطول والعرض، الفرصة لتلاعب أنقرة على أي مساحات ظَنّت عند لحظة بعينها أنّها رمادية، وأنه يمكن أن تكون “كعب أخيل” للأتراك للنفاذ منها، واستلاب ثروات ليست لهم، والتشارك عبر التحايل فيما وهب الله لأصحاب تلك البلاد على شاطئ المتوسط.
خلال أسبوعين سوف يلتئم الشمل المصري اليوناني مرة جديدة، من أجل تطوير رؤى التعاون بينهما داخل إطار أوسع هو منتدى غاز الشرق اﻷوسط، والذي يضم كذلك إيطاليا وإسرائيل وقبرص، فيما الولايات المتّحدة الأميركية تتمتَّع بصفة عضو مراقب، وجدير بالقول إنّ مثل هذا التجمع ستكون له أهمية فاعلة وناجزة في رسم معالم وملامح خيرات المنطقة وثرواتها، وكيفية إدارته لتحقيق أكبر استفادة، ومواجهة أي احتمالات تهدّد أمن وسلامة المنطقة.
أضحى الغاز سلعة استراتيجية في القرن الحادي والعشرين، وبات يشكّل مربع نفوذ قوي للغاية ضمن أوراق وخطط الدول في العقود القادمة، وكيف أن يراقب المرء تطورات المشهد ما بين روسيا وأوروبا، وإشكاليات خطّ سيل الشمال الذي تقف له واشنطن بالمرصاد ليدرك أهمية، وربّما خطورة ما يجري في المتوسط في حاضرات أيامنا.
من بين أفضل التعبيرات التي استمع إليها المرء في سياق هذه الاتّفاقيّة، ما ورد على لسان معالي الوزير أنور قرقاش وزير الدولة الإماراتيّ للشؤون الخارجيّة، والذي اعتبر أن: “النظام القانوني الدولي هو اﻷساس الراسخ الذي يدير العلاقات بين الدول ويحفظ اﻷمن والسلام، ولا يجوز للأمم المتحضّرة أن تُشَرْعِن التغوُّل السياسي على حساب الأسس التي تحكم العلاقات الدولية”.
ما صدر عن تركيا في واقع الحال يتجاوز التّغَوُّل السياسي، ويمضي في اتّجاه سياسة فرض اﻷمر الواقع بالقوّة، فالبيان الصادر من الخارجية التركيّة يتحدّث أنّ الاتّفاقية المصرية – اليونانية لا قيمة له، وكأنّها لم تكن، لأنّه لا حدود بحريّة بين مصر واليونان، وأنّ تركيا ستتصرّف وفق هذا المفهوم في الميدان وعلى الطاولة”.
في الميدان إشارة لا توفرها أعين أي مُحلِّل سياسي أو عسكري، ما يجعل التغوُّل كما أشرنا أبعد من مجرّد توقيع اتّفاقية باطلة مُلْغاة من الأصل مع حكومة الوفاق، ويصل إلى حدود الاستعداد للمجابهة العسكرية.
لا نريد استباق الحوادث، لكنّه من الواضح تمامًا أن نهاية اﻷردوغانية على اﻷبواب.