((الواقع الجديد)) الاربعاء 2 نوفمبر 2016م- المكلا
حاوره : أ. علي سالمين العوبثاني
” الحلقة الخامسة “
في الحلقة السابقة عرجنا على المرجعيات الحاكمة ومجالس الحكم التي يتم تنصيبها للمتقاضين بما حملته من أسس ومعايير دقيقة ..وهذا ما شكل نقطة انطلاقة لمجموعة من المفاهيم التي تستند عليها الأحكام .
واليوم نتطرق إلى ذات القضايا من خلال الأسئلة التي وضعناها على الأخ العزيز ” أبو علي ” .
(س) تطرقنا في الحلقة السابقة للمراجع والمجالس التي تصدر فيها الأحكام ، ولفتت انتباهي نقطة محورية يتخذها الحكام في أحكامهم أثناء سير القضايا ، وهي محاولة تنبيه المتقاضي عديم اللسان الذي تعوزه الحجة في انتزاع حقه الشرعي بتوكيل آخر عنه .. هل لك أن تحدثنا عن ذلك بتفاصيل أوفى ؟
(ج) أستاذ علي ..المشهد أجمل وأروع مما يتصوره القراء ، هناك شروع وافيه وعقول راجحة وقلوب رحيمة ، فكل ما يصل إلى مسامعنا من أخبار تلك القامات الكبيرة ، تنقلنا إلى عالم آخر من عوالمهم الجميلة ، حيث تجد في أحدهم من المزايا ما لم تجدها عند الآخر ، فثمة المروءة والحِكم والأحكام التي قد لا يستوعبها عقل في هذا الزمان . ولعل في إصدار وتنفيذ أحدهم حكم الإعدام قصاصا بحق شقيقه .. وأيضا إحراق الفرش الذي جلس عليه كل من أدين وحُكم عليه في قضايا العيب ( سواد الوجه ) من قبل مراجع آخرين ، أكبر دليل على كل ما ذكرناه فلا نستغرب إذاً من أقوال وأفعال أولئك الرجال .
وبالعودة إلى سؤالك فأزيدك من الشعر بيت ..بأن بعض هذه المراجع تطلق على نفسها ( أبو اليتيم – والعديم(الفقير المعدم ) وعديم اللسان ) حين يحضر إلى مجلسه طرفي قضية وبعد أن يتبين له إن أحدهم ( يتيم أو عديم ) يقوم مباشرة بتنصيب نفسه وكيلا عنه ويحيل القضية المنظورة أمامه إلى حاكم آخر فيكون خصما للطرف الآخر نيابة عن من ذكرناهم ، وكذلك الحال مع عديم اللسان إن لم يجد له وكيلا فأنه يقوم بالدور نفسه ، ليس من أجل مصلحة دنيوية ، ولكن يفعل ذلك لوجه الله تعالى ومن ثم وفاء لما قطعه على نفسه من عهود ، وحرصا منه على تحقيق مبدأ العدالة العرفية التي تتطلب الآتي :
– أن تكون الدعاوى واضحة ومحددة ومحصورة وفق ( وثر القضية ) .
– أن تكون الأجوبة مطابقة للدعاوى .
– أن تكون الحجج (البصائر – الشهود) تبرهن ما يقدمه كل طرف في القضية .
– أن يكون الحكم متناغما ومتناسقا مع (الوثر والدعوى والجواب والحجج ).
وللتوضيح أكثر حول ذلك فأنه : بحضور طرفي القضية إلى مجلس الحكم تتم قراءة الوثر على الجميع ، بعدها يطلب الحاكم من المدعي تقديم دعواه .. إذا كانت الدعوى في صميم القضية وحسب الوثر يقبلها الحاكم ، وإن لم تتضمن تلك الأسس والمعايير التي ذكرناها بأعلاه يتم رفضها على أن تعاد صياغتها مرة أخرى بناء على ما جاء في الوثر ، وكذلك الحال مع الجواب ، وأيضا الحجج إن كانت غير مستوفاة الشروط يتم رفضها من قبل الحاكم .. وهذه الأسس قد لا يفقها ( اليتيم – العديم – عديم اللسان ) مما يضطر الحاكم المرافعة عنهم .
(س) ما دمنا نتحدث عن المراجع والقضايا التي يحكمون فيها : فهل تحكم المراجع في كل القضايا بمختلف أنواعها أو إن كل مرجع متخصص في نوع معين من القضايا ؟
(ج) ينبغي قبل الإجابة على سؤالك أن أوضح لقرائك الكرام بأن هذه السوارح والعوائد والأعراف تعد بمثابة دستور ينظم جوانب الحياة قديما ، ، وأنه لا توجد قضية أو خلاف أو إشكال إلا ولها سوارح تبينها أو أعراف تحكمها ، وفي هذه الحالة يصعب على حاكم واحد أن يكون ملما بكل هذه الأعراف المتشعبة ، لذلك فهناك العديد من المراجع تنظر في مختلف القضايا ، وكان الجميع مكملا لبعض .
أما الجوانب الشرعية فدائما مردها لمن يفقهون في الشرع (علماء الدين الشرعيين ) حيثما كانوا .
(س ) من المؤكد وأنت تتذكر ذلك .. بأن ثمة نماذج من الأحكام التي تثير الإعجاب من خلال ما سمعته .. هلا أتحفتنا بنماذج منها ؟
(ج) معظم أحكام أولئك الرجال تكتب بأحرف من نور وبماء الذهب وتعتبر مفخرة للأجيال ، ولكنني سأذكر لكم أحد الأحكام البسيطة من حيث الشكل والتي لها دلالاتها ، حيث تجلت فيه الحكمة والدهاء والموهبة لرجل البادية البسيط ، الذي حكم في قضية أختلف حولها خصمان وكلاهما يدعي بأنه صاحب الحق فيها .. والقضية تتلخص في أن لكل واحد منهم ناقة .. الناقتان يرضعن حاشي واحد ( جمل صغير ) وكل من الناقتين تحن على هذا الجمل الصغير ..وكما هو معروف في البوادي أن تهمل الإبل في الصحاري ترتع وتشرب لفترات طويلة ، وبعد العثور عليهن من قبل أصحابها ، أدعى كل طرف بأن هذا الجمل هو ابن ناقته ، وعلى إثر هذا الخلاف بينهما احتكما لدى الحاكم أعلاه ، وأثناء الجلسة وبعد إطلاعه على ادعاء الطرفين اللذين لا يملكان أدلة ولا شهود فيها ، وإنما مجرد إبل سائبة في صحراء ( فلات ).. وكانت حجة كل طرف بأن ناقته ترضع هذا الجمل الصغير ، حينها تجلت حنكة الرجل الذي أصدر حكماً قضى بموجبه إحضار الإبل إلى جوار ( كريف ماء ) وربط القعود موضوع الدعوى على مقربة من الماء .. على أن تعقل الناقتان لمدة ثلاثة أيام متوالية دون طعام أو شراب ، وفي اليوم الأخير من انتهاء المحددة أمر الحاكم بإطلاق الإبل المرصونة وقال : إن الناقة التي تذهب مباشرة وترضع الحاشي فهي أمه ، أما التي تذهب إلى الماء فأن القعود ليس أبنها .حينها اتجهت أحدى الإبل إلى القعود والأخرى ذهبت إلى الماء ، في الأثناء عرف الجميع لمن تعود ملكية القعود وصلبا الحكم وانتهت القضية .
خلاصة هذا الحكم بأن الحاكم انطلق في حكمه من الفطرة التي فطر الله عليها مخلوقاته .. وذلك من خلال معرفته بأن محبة الأم وشفقتها على ولدها يطغيان على ما سواها ، رغم أنها كانت في أمس الحاجة إلى الماء والذي كانت بالقرب منه إلا إنها فضلت أن ترضع ابنها أولاً ومن ثم التوجه إلى الماء .
أما الناقة الأخرى اتجهت إلى الماء وبعد أن شربت وأكلت عادت وأرضعت ذلك القعود الصغير موضع الخلاف بحكم أنها فقدت ابنها .
(س) منذ بدأت حواري معك لاحظت تجنبك ذكر أسماء المرجعيات التي كانت تحكم بين المتقاضين ، وآثرت أن تشوب ردودك العمومية البعيدة عن الشخصنة ، ما السر في ذلك يا ترى ؟
(ج) عدم ذكري أسماء المرجعيات ليس المهم بل الأهم منه ذكر مناقب هؤلاء الرجال كي أترك المجال للباحثين والمهتمين الذين يريدون معرفة تلك الأسماء من خلال سعيهم الحثيث للبحث والتنقيب عنهم ، ولعل التفاصيل التي استعرضتها في كل الحلقات ستكون بمثابة الإضاءة أمامهم ، لهذا نأيت بنفسي من الخوض في ذلك لاعتبارات كثيرة لا سبيل لتبيانها هنا .
أعزائي القراء نلتقي معكم في الحلقة القادمة، بمشيئة الله تعالى .. وحتى ذلك الحين أتمنى لكم أطيب أوقاتها وأسعدها .