((الواقع الجديد )) الأربعاء 13 فبراير 2019 / المكلا
بقلم/ فواز الحميدي
الوطن ليس ملكيةً شخصية لأحد، فرداً كان أم جماعة، ولايمكن أن يوجد الوطن الحر ما لم يوجد المواطن الحر، ولايمكن أن يوجد المواطن الحر ما لم توجد دولة المواطنة.
يُقال إن كلمة وطن أخذت معناها الوظيفي حين بدأت فكرة الاستقرار تفرض على الإنسان البحث عن مكان لإقامة دائمة، بدلا من الترحل، ومنذ أخذ الإنسان يتوطن بدأت فكرة البناء، وتاليا بدأ التاريخ و خطا الإنسان الخطوة الأولى باتجاه الحضارة. وصار حب المكان يوّرث للأبناء في سياق الرغبة في الاستقرار ، ومعها نشأ حب الامتلاك و منه نشأت علاقة عاطفية بين المكان وساكنيه و تحولت مع الزمن إلى علاقة أنانية، وبدأنا نسمع عن فكرة الغيرة على الوطن وكانت الحروب وكان الدمار.
و مع تطور الوعي الإنساني أخذ مفهوم الوطن يتحرر من الالتباس بالعاطفة، و بدأ يحاول استعادة دلالته الوظيفية، من خلال قوانين تعقلن العاطفة العمياء التي لاتفرق بين رمزية المكان ووظيفة المكان. ولأجل ذلك صيغت قوانين المواطنة وأعيد تعريف الهوية و توصيف حالات اكتساب الجنسية.
يتبادل كثيرٌ من اليمنيين تهم التخوين لبعضهم بعضا ويبالغون في الإسفاف و الشتيمة وهم يظنون أن البذاءات تعني الدفاع عن الوطن، أو يظنون أن أكثرهم شتيمة للآخر هو أكثرهم وطنية، ولايدركون أن هذه الانفعالات المنفلتة تظهرنا كمجتمع من السفهاء!
قليلون من يجعلون القانون حكماً فيما يحدث، ويصنفون الأفعال بمدى قانونيتها أو عدم قانونيتها بعيداًً عن إقحام الوطن في تقييماتهم و تصنيفاتهم، مدركين أن الوطنية تقتضي احترام المواطنة.
في سياق فائض الوطنية ينشط مخيال التعصب و يتم تقسيم المجتمع إلى وطنيين وخونة، وعلى القنوات الفضائية وعلى البث المباشر كثيراً ما شاهدنا اتهامات المتحاورين لبعضهم بعضا بعدم الوطنية، وكثيرا ما شاهدنا عراكاًً بالايدي، وتهديدا ووعيدا، وكأن الوطنية لا يعبر عنها إلا بالصراخ والزعيق وانتفاخ الأوداج.
فائض ادعاء الوطنية كثيرا ما يوتَر النقاشات ويشحن المجالس بالضوضاء والمهاترات، وكثيراً ما يحرك الأيادي المتشنجة ويرفع الصوت الغوغائي، وكثيرا ما يطلق الكلمات البذيئة، متجاهلا أن هذا التعبير عن الوطنية يدمر الوطن، ويطلق العنان للغرائز و يسلب مفردة الوطن بهاءها و جلالها. ويسهّل للأوغاد المزايدة باسم الوطن.
الحوثيون يتشبثون بمفردة الوطن ويقحمونها في كل صغيرة وكبيرة، فالوفد الذي يرسلون للمفاوضات يسمونه الوفد الوطني،وقواتهم يسمونها الجيش الوطني، والشرعية كذلك لديهم جيش وطني ووفد وطني، ولا أحد من الأطراف المتصارعة التي يفيض منسوب وطنيتها يتساءل: هل الضحايا مواطنون يمنيون ؟! وهل الحرب هي الطريق الوحيد للتعبير عن حب الوطن ؟! ولماذا تصر كل أطراف الحرب على ادعاء الدفاع عن الوطن؟!
كثيراًً ما أصبح الوطن لافتةً يتقاتلون تحتها، وشعارا يتقاتلون باسمه، وكثيرا ما جرى تحميل كلمة الوطن تبعات أحقادنا وغباء مواقفنا، كأنما يراد لكلمة الوطن أن تغدو كلمة قاتلة، وسلوكا عدوانيا.
لايكفي أن تكون الوطنية حالة عاطفية، فحب الوطن يجب أن نعبر عنه عمليا من خلال سلوكيات تجاه مواطنينا، والإلتزام بالقانون هو الإجراء الذي يعبر به عن حب الوطن. وكل جريمة هي خرق للقانون وكل خرق للقانون هو انتقاص من حق مواطن، وكل انتقاص من حق مواطن هو انتقاص من الوطن.
من يحترم الوطن لن يجرؤ على سرقة المال العام أو استغلال المنصب أو ممارسة المحسوبية أو الرشوة أو حتى رمي القمامة في الشارع! فكيف يمكن لأحد أن يدعي الوطنية وهو يقتل مواطنه، أو يستسهل التحريض على قتله؟! أو يسقط عن مواطنه حق الشراكة في الوطن لمجرد أنه اختلف معه في الرأي أو اختار لنفسه حق الحياد!
وحتى لاتتحول الوطنية لكرباج نجلد به المختلف والمغاير، علينا أن ندرك أن علاقتنا بالوطن علاقة وظيفية بين المكان ومواطنيه، فالوطن ليس مجرد جغرافيا نطارحها الحنين لأن قدرا ما، جعل مولدنا فيها، وليس مجرد تاريخ نتباهى به و نحوّله إلى دعاية وإعلان!
كل من يستسهل ذم شريكه في الوطن ويعمل على الانتقاص من حريته و فردانيته وكرامته يراكم عوامل الانتقاص من الوطن بكامله ويهيئ المجتمع للتشرذم والتناحر والتشظي.
لماذا لا يكون فائض الوطنية في البحث عن القواسم المشتركة، وتنمية الوعي بدولة المواطنة، حتى لايصبح الوطن كلمة حق يراد بها باطل؟!
ولماذا لا تكون حماية الوطن بنفي كل أسباب الصراع وكل دواعي الاقتتال وحمل السلاح؟!
لماذا لا تكون حماية الوطن بالدفاع عن حقوق المواطنة ورفع الوعي بها، و إحلال السلام والتعايش الذي ينتج الاستقرار ويكفل للمواطن أن يعمل ويعيش بكرامة؟!
وهل يمكن أن يبني وطناً من لا يتقبل شريكه في الوطن؟! وكيف لمن لايقبل الداخل ويصنف كل مختلف معه عدوا، أن يقيم علاقات دولية مع الخارج؟!
ماذا يبقى من الوطن حين نحوله إلى مقابر، وأطلال ندفن تحتها إنسانيتنا؟!
ماذا يبقى من الوطن حين نحوّله إلى غابة أو مقبرة جماعية؟!
إن لم تكن فكرة الوطن تعني الاستقرار فعن أي وطنٍ نتحدث؟!