السبت , 23 نوفمبر 2024
%d8%b3

“نقطة نيمو”: أبعد بقعة عن اليابسة على كوكب الأرض

((الواقع الجديد)) هيئة الإذاعة البريطانية BBC – واشنطن – الثلاثاء 11 اكتوبر 2016

ثمة بقعة في المحيط الهادئ تبعد أكثر من غيرها عن اليابسة، وهي على نحو ما ذات طابع غريب وخاص.

أين يمكن للمرء أن يذهب إذا ما قرر الفرار من كل شيء؟ اللافت أن الإجابة عن هذا السؤال ليست باليسيرة؛ فإذا ما دفعتك توترات الحياة اليومية وضغوطها للبحث عن أكثر بقعة نائية في العالم للهرب إليها، قد تفاجئ بأن تعلم أن البدائل المتاحة لك في هذا الصدد محدودة بحق.

لكن إذا كان بوسعك حفظ توازنك وسط الأمواج العاتية، فلا يوجد ما يضارع تلك البقعة الواقعة وسط المحيط الهادئ، والتي تشكل أبعد مكان عن اليابسة في العالم، ويُطلق عليها اسم “قطب المحيط المتعذر الوصول إليه”.

ونظراً لأن هذا الاسم الرسمي عسير على النطق بشكل ما، لُقِبَتْ هذه البقعة باسم “بوينت نيمو” (نقطة نيمو)، على اسم الكابتن نيمو؛ وهو ذاك البطل الشهير الذي ابتكرته مخيلة الكاتب جول فيرن لربانٍ يجوب البحار، ويتصف بسمات تختلف عن تلك التي يتسم بها الأبطال الروائيون عادة. ويبدو الاسم ملائماً لتلك البقعة التي لا تُزار إلا نادراً، فـ”نيمو” تعني باللغة اللاتينية “لا أحد”.

وتقع “نقطة نيمو” في قلب مثلث متساوي الأضلاع تماما، تشكله سواحل ثلاث جزر نائية، تبعد عن كل منها أكثر من ألف ميل (نحو 1600 كيلومتر).

وتمثل جزيرة دوسي (وهي إحدى جزر بيتكيرن) الضلع الشمالي للمثلث، بينما تشكل جزيرة موتو نوي صغيرة المساحة (وهي جزء من السلسلة المؤلفة لجزيرة عيد الفصح) الضلع الشمالي الشرقي، أما الضلع الجنوبي فيتمثل في جزيرة “ماهِر” (الواقعة قبالة سواحل القارة القطبية الجنوبية).

وتبدو “نقطة نيمو” بقعة غريبة ومميزة بشكلٍ ما. فلطالما تجادل الخبراء حول تلك الأحجية الجغرافية المتعلقة بإيجاد النقطة التي تتوسط المحيط، لكن الأمر لم يُحل بشكل كامل سوى باستخدام التقنيات الحديثة، لتُكتشف منطقة “قطب المحيط المتعذر الوصول إليه” رسمياً في عام 1992 على يد مهندس مساحة يُدعى فرفاي لوكاتيلا.

وقد تم حل اللغز، دون إطلاق بعثة بحرية تقصد هذه المنطقة. فقد عكف لوكاتيلا على إجراء حساباته لتحديد موقع المنطقة، باستخدام برنامج كمبيوتر متخصص، لا يكتفي بمجرد تحديد الموقع على خريطة مسطحة ذات بعدٍ واحد للأرض، وإنما يُظهره على ما يُعرف بالشكل “الإهليجي” للكوكب، لكي يتسنى تحديد إحداثياته بأقصى قدرٍ ممكن من الدقة.

وتفيد المعطيات بأنه من غير المرجح أن يكتشف الباحثون أن هذه النقطة تقع في مكان آخر يبعد كثيراً عن ذاك المُحدد حالياً، على الأقل في المستقبل القريب.

ويقول لوكاتيلا: “موقع هذه النقاط الثلاث التي تتساوى الأضلاع الرابطة فيما بينها فريدٌ بحق. ولا أعتقد أنه يمكن تصور وجود نقاطٍ أخرى على سطح الأرض، بوسعها الحلول محل أي نقطةٍ منها”.

ورغم أنه من الممكن أن يتغير موقع “نقطة نيمو” سواء بفعل تآكل السواحل أو بفضل إجراء قياسات أكثر دقة، فإن موقعها الجديد المفترض في هذه الحالة لن يبعد – كما يقول لوكاتيلا – سوى بضعة أمتار عن الموقع المعروف لها حالياً.

ومن فرط بعد هذه النقطة للغاية عن أي يابسة، يشكل رواد الفضاء في الغالب أقرب تجمع بشري لها. فالمحطة الفضائية الدولية تدور حول الأرض على ارتفاع لا يزيد على 258 ميلاً (416 كيلومتراً)، بينما يقع أقرب موقع مأهولٍ على البر لها على بعد يفوق 1670 ميلاً (قرابة 2700 كيلومتر). ولا عجب في ذلك، فكامل المنطقة المحيطة بـ”نقطة نيمو” معروفة جيداً للعديد من الوكالات الفضائية.

وتطلق هذه الوكالات على تلك البقعة رسمياً اسم “المنطقة غير المأهولة في جنوب المحيط الهادئ”. ولطالما استخدمتها وكالات الفضاء الروسية والأوروبية واليابانية – بشكل خاص – كـ”مكبٍ للنفايات” الخاصة بها، نظراً لأنها النقطة الأقل سكاناً على سطح الأرض، والخالية أكثر من غيرها من طرق الملاحة البحرية.

ويُعتقد أن أكثر من مئة من المركبات الفضائية التي خرجت من الخدمة، تقبع حالياً في “مقبرة المركبات الفضائية” تلك، بدءاً من أقمارٍ صناعية وسفن شحن فضائية وصولاً إلى المحطة الفضائية “مير” التي انتهت مدة خدمتها.

ولكن مثل هذه المركبات والأقمار لا ترقد كاملة الهيئة في المحيط، لتمثل بذلك نصباً تذكارية تُخلّد تاريخ رحلات الفضاء، بل إن بقاياها تتناثر في القاع في صورة شظايا، كما تقول الخبيرة في تاريخ الرحلات الفضائية أليس غورمان، من جامعة فليندرز بمدينة أديلايد الاسترالية، والتي توضح بالقول: “لا تستطيع المركبة الفضائية تحمل إعادة الدخول للغلاف الجوي” للأرض دون أن تتفتت.

وتستطرد قائلةً: “معظم هذه المركبات تحترق من فرط الارتفاع الرهيب في درجة الحرارة. غالبية المكونات التي تنجو من هذا المصير تتمثل عادةً في خزانات الوقود ومركبات الضغط، وهي جزءٌ من منظومة الوقود، إذ أنها تُصنّع عامةً من سبائك التيتانيوم والفولاذ المقاوم للصدأ، وغالباً ما تُغلف بألياف الكربون المجدولة، التي تقاوم درجات الحرارة المرتفعة”.

أما الشظايا الأصغر فتحترق في الغلاف الجوي، دون أن تُخلّف سوى عرضٍ مبهرٍ للأضواء.

وتقول غورمان إنه يُعتقد أن الأمواج قد جرفت الأجزاء الأكبر حجماً من “مير” – تلك المحطة التي كان وزنها يصل إلى 143 طناً – على سواحل فيجي، بينما غرق باقي الحطام إلى أعماق المحيط.

وتضيف الباحثة قائلةً إن هذا الحطام “مثله مثل حطام السفن، يشكل موائل يمكن أن تستوطنها أي كائنات .. تعيش على هذا العمق .. وهو ما لا ينبغي أن يشكل خطراً على الحياة المائية” إلا في حالة وجود بقايا وقود قابلة للتسرب إلى المياه المحيطة.

من جهة أخرى، فقد ثارت – ولفترة طويلة – الشائعات حول ماهية الكائنات الحية، التي ربما تكون موجودة في “نقطة نيمو”.

فقبل اكتشاف هذه البقعة بستة وستين عاماً، اختار كاتب الخيال العلمي هوارد فيليب لافكرافت منطقة قريبة بشكلٍ مخيف منها، ليعتبرها “رليّاه”؛ ذاك الموطن المفترض للكائن الأسطوري الخرافي، الذي سماه كوثولُّو، وتصوّره على شكل مخلوقٍ يتألف وجهه من عدد من المجسات.

وفي عام 1997، سجّل علماء المحيطات ضوضاء غامضة على بعد أقل من 1240 ميلاً (نحو ألفيّ كيلومتر) إلى الشرق من “نقطة نيمو”، مما أحدث قدراً كبيراً من الإثارة وبعض الفزع والخوف كذلك.

وكانت هذه الضوضاء، التي أُطلق عليها اسم “بلوب”، أعلى دوياً حتى من الأصوات التي يصدرها الحوت الأزرق، مما أثار تكهنات بأنها قد تكون صادرة عن وحش بحري غير معروف.

رغم ذلك، فقد أكدت الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي في الولايات المتحدة أن تلك الضوضاء لم تكن سوى صوت تصدع الجليد. فعندما تتصدع الجبال الجليدية الكبيرة وتتفتت، ينتج عن ذلك موجات فوق صوتية قوية ذات نطاق منخفض التردد.

وقد أظهرت تسجيلات لاحقة لأصواتٍ من المؤكد أنها ناجمة عن انهيار كتل جليدية، وجود أوجه شبه بينها وبين الصوت الذي سُجِلّ قرب “نقطة نيمو”.

ولكن السؤال يبقى عن طبيعة المخلوقات الحية، التي يمكن أن تكون موجودة في هذه البقعة النائية، إذا لم يكن هذا الموقع حقاً موطناً لهذا الكائن الخرافي الذي ابتكره لافكرافت ويجمع في شكله ما بين الإنسان والأخطبوط والتنين؟

في هذا الشأن، يتبنى خبير المحيطات ستيفن دونَت من جامعة رود آيلاند بمدينة ناراغانسيت الأمريكية رؤيةً متشائمة، مفادها بأنه ربما لا يوجد الكثير من هذه المخلوقات هناك.

ويرجع ذلك إلى أن “نقطة نيمو” تقع وسط ما يُعرف بـ”دوامة جنوب المحيط الهادئ”، وهي عبارة عن تيار محيطي هائل دوامي الشكل، تتجاذبه قارتا أمريكا الجنوبية وأستراليا شرقاً وغرباً، بينما يتجاذبه من الشمال خط الاستواء ومن الجنوب التيار القطبي القوي الخاص بالقارة القطبية الجنوبية.

وتتسم المياه الواقعة وسط “دوامة جنوب المحيط الهادئ” بالاستقرار، فدرجة حرارة المياه في “نقطة نيمو” تبلغ 5.8 درجات مئوية (42 درجة فهرنهايت)، وفقا لبياناتٍ مستقاة من الأقمار الاصطناعية التابعة للإدارة الوطنية للملاحة الجوية والفضاء في الولايات المتحدة (ناسا).

ويحول التيار الهوائي دائم الدوران في هذه المنطقة دون أن تصل إلى “نقطة نيمو” مياهٌ أخرى أكثر برودة وثراءً بالمواد الغذائية.

كما أن العزلة الشديدة لهذه البقعة عن المناطق الآهلة بالسكان، تجعل الرياح التي تهب عليها تعاني من الفقر البالغ فيما تحمله من مواد عضوية.

لذلك لا تتوافر هناك مواد تكفي لأن يتغذى عليها أي مخلوقٍ كان، بل إن الحياة تنعدم في قاع المحيط تقريباً، نظراً لأنه لا ينعم بأي “ثلوج بحرية”، وهو مصطلح يشير إلى المواد التي تتساقط من أعلى على قيعان المحيطات.

ويصف دونَت هذه المنطقة بأنها “الأقل من حيث النشاط البيولوجي في عالم المحيطات”. رغم ذلك، هناك بضع أماكن استثنائية توجد فيها كائنات فريدة من نوعها، قادرة على مواجهة الظروف الصعبة الموجودة في هذه البقعة.

فـ”نقطة نيمو” تقع قرب الحد الجنوبي لما يُعرف بـ”أعراف شرق المحيط الهادئ”، وهو خط نشاط بركاني يقع تحت سطح البحر ويمتد إلى خليج كاليفورنيا. وتشكل حداً ما بين الصفيحة التكتونية للمحيط الهادئ ونظيرتها المُسماة بصفيحة نازكا، اللتين تبتعدان عن بعضها البعض تدريجياً.

وتسيل الحمم البركانية الذائبة، في الفجوة بين الصفيحتين، مما يُحدِثْ فتحاتٍ حرارية مائية، ينبثق منها الماء الساخن والمعادن.

يخلق ذلك بيئة شديدة القسوة، ولكنه لا يمنع من أن تتمكن البكتريا من الحياة فيها والازدهار، إذ تكتسب الطاقة اللازمة لها من المواد الكيمياوية التي تطلقها الانفجارات البركانية. وتفيد البكتريا بدورها كائناتٍ أخرى أكبر وتمكنها من البقاء على قيد الحياة.

من بين هذه المخلوقات “سرطان البحر الياتي”، الذي شوهد للمرة الأولى عام 2005، وأُطلق عليه هذا الاسم بسبب مظهره المُشْعِر، الذي يُذكر بـ”الياتي” وهو اسم لمخلوقٍ هائل الحجم، يُعتقد أنه يعيش في أعالي جبال الهيملايا.

ورغم أن هناك الكثير مما لا يزال ينتظر أن يُكتشف في أعماق “نقطة نيمو”، فإن بعدها الشديد عن العمران، جعل استكشافها وإجراء أبحاث فيها أمراً مُكلفاً وعسيراً.

فلا يوجد زوار تقريباً لتلك البقعة، اللهم إلا من يشاركون في سباق يخوتٍ يطوف العالم بين الحين والآخر. ويعني ذلك أنه من غير المرجح أن يقفز اسم “نقطة نيمو” أو صورتها أمامك وأنت تتصفح حساباتك على مواقع التواصل الاجتماعي، ولذا يتعين عليك استخدام مخيلتك لرسم صورة لها.

في هذا الشأن يقول دونَت: “بكل بساطة، يكون سطح الماء في قلب منطقة دوامة جنوب المحيط الهادئ – خلال الأيام الهادئة – أزرق صافياً جميلاً، بمسحة بنفسجية، نظراً لأنه يحتوي على جسيمات محدودة للغاية، ومواد حية قليلة جداً كذلك”.

ولكن لربما كانت هذه البقعة ستبدو على هذه الشاكلة بالفعل، لولا تراكم النفايات فيها.

في عام 2010 أصدر فريق “غوريلاز” الموسيقي – الذي يقدم أعماله دائماً عبر أربع شخصيات افتراضية من الرسوم المتحركة – ألبوماً باسم “بلاستيك بيتش” (شاطئ اللدائن البلاستيكية).

وألف أعضاء الفريق خلفية درامية للألبوم، افترضوا فيها أنه سُجل في استوديو للتسجيلات، أُقيم على حطام بحري تراكم في “نقطة نيمو”.

لكن هذه الرواية ليست من قبيل الخيال الجامح، كما قد تبدو. فقد أكدت دراسة نُشرت عام 2013 وجود كتلة من النفايات بداخل “دوامة جنوب المحيط الهادئ”. وتبين أن أكبر مجموعة من هذه القاذورات تتراكم في منتصف هذه المنطقة، على بعد نحو 1550 ميلاً (قرابة 2500 كيلومتر) شمال شرق “نقطة نيمو”.

ويتمثل الجانب الأكبر من هذه المخلفات في نفايات بلاستيكية مثل البوليستيرين (البلاستيك الشفاف)، وأوراق تغليف بلاستيكية، وخيوطٍ مستخدمة في صنانير الصيد، بجانب شظايا وحبيبات، جرفتها المياه جميعاً سواء من السفن أو من على السواحل.

وتبقى هذه النفايات حبيسة لتلك المنطقة بفعل التيار البحري دائب الدوران حول نفسه الموجود هناك، والذي يؤدي إلى تفتت تلك المواد إلى شظايا شديدة الصغر.

ويعتقد علماء الأحياء أن هذه القمامة قد تؤدي إلى تقويض التوازن في النظام البيئي في تلك المنطقة، نظراً لأنها تساعد بعض الكائنات على التكاثر، بينما تخلق صعوبات أمام كائناتٍ أخرى.

وهكذا، فحتى في أقصى بقعة بعيدة عن العمران على ظهر الأرض، يبدو أنه لا مهرب من تلك العادات البشرية المدمرة.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.