((الواقع الجديد)) الاربعاء 14 مارس 2018
ايلين او
لعل من أبرز تراجيديات الصناعة الحاسوبية أن المجال الذي غلبت عليه النساء في يوم من الأيام صار مرتعاً يهيمن عليه الرجال اليوم. وعلى النقيض مما شاع أو ذاع من معتقدات في ذلك، فلم يتعلق الأمر يوماً قط بغلبة الرجال على النساء في هذا المضمار. بل إن الفضل، وإلى حدّ كبير، يرجع إلى النساء، وجهودهن في خلق الوظائف الأساسية للرجال في هذه الصناعة.
وذات مرة كما يقال، لم يكن من أحد يستطيع التفاهم مع الحواسيب سوى أهل البرمجة. وكان الأمر يعد شكلاً من أشكال الأعمال المكتبية الروتينية، مثالاً بإدخال البيانات أو عمليات لوحات المفاتيح التبادلية. وكانت المبرمجات من النساء – واللاتي كن يُعرفن باسم «مغذيات الحواسيب»، نظراً لأن أعمالهن كانت تتعلق بتغذية البيانات إلى الماكينات (ومن ثم نشأ مصطلح «التغذية البيانية») – يعملن على ترجمة المخططات الانسيابية إلى عمليات منطقية، ثم تحويل «شيفرات» الماكينات المناظرة إلى بطاقات مثقوبة.
وأدركت الدكتورة غريس هوبر، عالمة الرياضيات لدى مؤسسة ريمنغتون راند، أن المغذيات البشرية للحواسيب يشكلن عائقاً كبيراً في عملية البرمجة. وتصورت الدكتورة هوبر أنه في يوم من الأيام، يمكن للمستخدمين من غير الخلفية التقنية المسبقة التعامل مباشرة مع الماكينات الحاسوبية باللغة الإنجليزية، وتجاوز العملية غير الفعالة من ترجمة الأوامر إلى بطاقات. وعلى الرغم من أن المؤسسة رفضت فكرتها تماما في ذلك الوقت، فإن ذلك لم يُثن الدكتورة هوبر عن المضي قدماً في سبيلها وابتكار لغة الحاسوب الخاصة بها، التي تشبه التعامل باللغة الإنجليزية، وأطلقت عليها اسم «فلو – ماتيك».
وفي الأثناء ذاتها، تمكنت بيتي هولبرتون، زميلة الدكتورة هوبر، من كتابة أول نظام للبرمجة الآلية – وهو البرنامج الذي يمكن للناس العاديين استخدامه في إنشاء أو تشغيل البرامج الأخرى على الحواسيب. وساهمت الزميلتان فيما صار بعد ذلك أول لغة من لغات البرمجة الحاسوبية المستخدمة على نطاق كبير – وهي لغة كوبول أو (اللغة الحاسوبية المشتركة الموجهة للأعمال).
وقضت لغة كوبول الجديدة على الحاجة إلى الترجمة ما بين الإنسان والماكينة، وهي العملية التي كانت، في عام 1959، تستلزم أكثر من 600 ألف دولار من الإنفاقات وعامين كاملين من العمل والجهد من أجل إنتاج برنامج حاسوبي واحد. ومن ثم صارت البرمجيات مفهومة وأكثر قابلية للاستخدام عبر العديد من الماكينات. وفي غضون عشر سنوات فقط، تلاشت تماماً وظائف التغذية الحاسوبية من الوجود.
وإثر ذلك، يمكننا القول إن الفضل يرجع بالأساس إلى النساء في خلق التقنية التي قضت على تلك الوظائف. غير أن الواقع الجديد رفع الطلب على أنوع المهام الجديدة كافة، مثل تطوير البرمجيات التي سرعان ما تحولت إلى العنصر الحيوي والحاسم في كل قطاع من قطاعات الأعمال، من الأعمال المصرفية وحتى إدارة المخازن. وأدّت رؤية الدكتورة هوبر، التي تتعلق بالتعامل البشري المباشر مع الحواسيب، إلى وجود أدوات أخرى مثل «إكسل»، و«كويك – بوكس»، التي وفرت واجهات التواصل المباشرة التي تترجم طلبات المستخدمين فوراً إلى شيفرات يفهمها الحاسوب.
ولذلك، عندما يقول الناس إن التمثيل النسائي في عالم الحواسيب لا يرقى إلى المستوى الكافي أو المطلوب، فربما أن تعريفهم هذا يفتقر إلى المعرفة أو هو ضيق الأفق كثيراً. فمن إحدى الزوايا، كل من يستخدم الحاسوب اليوم – سواء كان المستشار الإداري الذين يستخدم برنامج «مايكروسوفت أكسيس»، أو الفتى المراهق الذي يستخدم تطبيق «سناب – شات» – لا يفعل أكثر مما كان يفعله المبرمجون الأوائل ذات مرة. وصارت برمجيات قواعد البيانات الحالية بعيدة كل البعد عن العمليات الحاسوبية الأساسية، لدرجة أننا لم نعد نفكر في تسمية المستخدمين بالمبرمجين على الإطلاق الآن.
وبعبارة أخرى، لا يمكن اعتبار النساء من الضحايا المستسلمات اللاتي طردن خارج الصناعة الحاسوبية بحال. بل إنهن الرائدات. وبفضل جهودهن، تطورت الصناعة إلى المرحلة التي صارت فيها تلك المهن والوظائف عالية التخصص. واتسم عمل الدكتورة هوبر على لغة كوبول، إلى جانب المختصين في جمع البرمجيات، بالنجاح الباهر في إضفاء الطابع الديمقراطي على مجال البرمجة الحاسوبية حتى إن أغلب مهام الحواسيب اليوم لم تعد تتطلب أي قدر من البرمجة.
ولن تكون وظائف المغذيات الحاسوبية هي الضحية الوحيدة لعمليات أتمتة البرمجيات. إذ يقوم مطورو التطبيقات اليوم بمعظم أعمالهم عبر واجهات المستخدمين التي تسمح لهم بمجرد مهام «الإمساك والسحب» لمختلف العناصر والمكونات المرغوب فيها. وتعمل الصناعة الحاسوبية باستمرار على إعادة تعريف كيفية التواصل البشري مع الماكينات، وما يعنيه الأمر اليوم لأن تكون «مبرمجاً». وبعد عقد من الآن، من الممكن للغاية أن تكون وظيفة مهندس البرمجيات غير ذات أهمية تُذكر مثل ما صار مع وظيفة المغذيات الحاسوبية في خمسينات القرن الماضي.