(( الواقع الجديد)) الأحد 11 مارس 2018م
انعام كشه جي
قبل أن تقطع المقصلة رأسها أمام الملأ، في ساحة الكونكورد في باريس، صاحت أوليمب دو غوج: «يا أطفال الوطن ستثأرون لي». كان ذلك قبل 225 سنة. حكم عليها الثوار بالإعدام لأنها كانت، بشكل من الأشكال، أكثر منهم ثورية. أوليمب المرأة الملعونة، المشكوك في نسبها، المتمردة التي تجرأت على نشر المقالات وطالبت بحق المرأة في الانتخاب. انتقدت الزواج الكنسي ودعت إلى زواج وفق عقد رسمي يحفظ الحقوق في الميراث وعند الطلاق. لكن الجريرة الكبرى لتلك المرأة ليس خطابها النسوي بل دعوتها لـ«عقلنة» المد الثوري. اعترضت على أنهار الدماء وعلى إعدام الملك لويس السادس عشر وتمنت لو كان قادة الثورة على شيء من الرأفة.
لم تكن أوليمب من طبقة النبلاء وإنما خريجة حياة بائسة. تزوجت وترملت وتركت بلدتها الجنوبية قاصدة باريس، مع ابنها الوحيد، على أمل أن تصبح كاتبة. سخر منها الوسط الأدبي ووصفها بالجاهلة وعرقل عرض مسرحياتها على خشبة «الكوميدي فرانسيز». ولما قامت الثورة الفرنسية راحت تكتب مقالات في السياسة. والسياسة، لو تعلمون، تحتاج إلى شوارب، وليس من اللائق أن تدلي المرأة برأيها بين الرجال. كان عليها أن تبقى في المطبخ تقشر البطاطس. وإذا كانت لها موهبة أدبية فلا بأس من أن تفتح صالوناً أدبياً. لكن أوليمب لم تكن من نوع سيدة الصالونات. ولما عيّروها بأنها «بنت حرام» ردّت بأنها ابنة الطبيعة. وغمست ريشتها في الدواة وكتبت رسالة مفتوحة إلى الجمعية الوطنية ترفض فيها إعدام معارضي الجمهورية. من كان يتجرأ في تلك اللحظات الفوارة على مخالفة روبسبيير ومارا ودانتون وغيرهم من الذين كانوا يؤججون مشاعر الشعب الغاضب من امتيازات النبلاء؟
لم تلتفت أوليمب للهجوم عليها وواصلت كتابة المقالات والبيانات التي تناصر الفئات الضعيفة؛ النساء والفقراء والملونين والعبيد. ولما أصدر الثوار، سنة 1789، إعلانهم ردّت عليهم بإعلان «حقوق المرأة والمواطنة»، وأخذت عليهم أنهم أغفلوا حق الفرنسيات في الانتخاب. وهو حق تأخر كثيراً حتى انتهاء الحرب العالمية الثانية. وبهذا، فإن آراء تلك المرأة صارت مثل الشوكة في القدم. إنها تدين العنف الذي يفسد الثورات ويحرف قطار الحرية عن السكة. كان لا بد من نزع الشوكة وإرسالها إلى السجن ثم المقصلة التي كانت تصعد وتنزل ليل نهار، قاطعة رؤوس الملك والملكة والعشرات من الرجال والنساء. ولما منعوها من توكيل محام، كتبت أوليمب مقالة أخيرة بعنوان «مواطنة مُضطهدة»، وفي غياب محاميها، وقف المدعي العام بيير غاسبار شومات ليقول إنها مسترجلة، وقحة، أرادت أن تعمل في السياسة وكانت من «الكائنات اللاأخلاقية». ثم حذّر النساء الفرنسيات من تقليدها.
ذبلت ملايين الأزهار الحمر لاحتفال فرنسا باليوم العالمي للمرأة دون أن يخطر اسم أوليمب على خواطر بنات هذه الأيام. هل سمعن عن تلك التي كتبت: «إن كانت المرأة تملك الحق في ارتقاء المقصلة فيجب أن تمتلك الحق في الصعود إلى المنبر». والمقصلة، بالفرنسية «غيّوتين»، هي اختراع «ثوريّ» من القرن الثامن عشر، سُميّت نسبة إلى مخترعها الدكتور جوزيف غيوتان، وواصلت عملها الدؤوب في فرنسا حتى إلغاء عقوبة الإعدام مع وصول الرئيس ميتران إلى الحكم سنة 1981. ومن سخريات التاريخ أن الشفرة الحديدية التي قطعت رأس الملك وقرينته ماري أنطوانيت، ورأس أوليمب دو غوج، نزلت، أيضاً، على رقبة أشهر زعماء الثورة الفرنسية، مكسيميليان دو روبسبيير.
من يومها والثورات تأكل أبناءها.