((الواقع الجديد)) السبت 10 مارس 2018
امير طاهري
وفقاً لأهل الاطلاع والدراية في باريس، فإن وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان هو من السياسيين الأذكياء القادرين على إقناع الآخرين من خلال الأحاديث المطولة والإطناب المؤثر.
وهو سياسي محلي بالأساس، وبزغ نجمه من وضعية الغموض النسبي إلى البروز على مسرح السياسة الفرنسية مع قرب نهاية فترة حكم الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا هولاند. ومن واقع شغله لمنصب وزير الدفاع في حكومة هولاند الأخيرة، سرعان ما تحول لودريان إلى نجم حكومة هولاند المحتضرة. وفي حين أن وزراء آخرين سقطوا ضحايا الأوهام الفارغة، إلا أن لودريان حاز سمعة السياسي «الفاعل» من خلال استطاعته تأمين قدر هائل من التعاقدات الدفاعية الضخمة لبيع أحدث الطائرات المقاتلة الفرنسية، «الرافال»، إلى عدد من البلدان، من بينها البرازيل، ومصر، والهند، وبالتالي تصدر الصحف بقدر لا بأس به من العناوين الرئيسية والأخبار الجيدة في حكومة هولاند التي اتسمت بالأنباء السيئة والمفجعة.
وكان لودريان اشتراكياً بدرجة كافية مكنته من البقاء على قيد الحياة السياسية رغم عدة تعديلات وزارية لم تقترب من كرسيه الوزاري، ولكنه ليس اشتراكياً حتى النخاع، لدرجة تجعله ينجو من السفينة السياسية الغارقة.
وكان لودريان يدرك متى يفر من السفينة قبل الغرق، إذ كان من أوائل الساسة الذين قفزوا إلى عربة إيمانويل ماكرون السياسية المنطلقة في الوقت الذي وصف فيه عدد من المحللين فرص السياسي الشاب الطموح بأنها طفيفة وضئيلة للغاية في يونيو (حزيران) الماضي.
وعندما فاز ماكرون على الرغم من الصعاب كافة، ارتقى لودريان إلى منصب وزير خارجية الإليزيه، على أساس أنه رجل الدولة الأكبر سناً بين جموع وزراء الحكومة الجديدة، ومن القلة التي لها كلمة مسموعة في جوانب أخرى من شؤون السياسات المحلية والدولية.
لذلك، وخلال الأسبوع الحالي، ومع توجه لودريان إلى طهران لما وصفه البعض بمحاولة إجراء المحادثات الحاسمة، كان إجماع الآراء في باريس يدور حول أنه إذا كانت لأي شخص القدرة على إقناع الملالي بالتخفيف من اندفاعهم وحميتهم المتقدة، فلن يكون سوى شخصية البطل البريطاني في مسرحية «ذا ميراكل ووركر».
ووفقاً للمصادر المطلعة في باريس وطهران، وأثناء المحادثات مع قادة الجمهورية الإسلامية، استخدم لودريان أسلوبه الناجح حتى الآن من سياسة «الأخذ والمنح؛ »وهو أسلوب بسيط للغاية؛ إذ طلب رجل الدولة الفرنسي من محاوريه نفس ما يريدونه منه بالضبط.
وبمجرد أن صارت الأمور واضحة للجميع، أثار لودريان سؤالاً بشأن مقدار ما يمكن تحقيقه مما هو مطلوب منه، وكيف، ومتى يمكن تحقيقه؟ وتكمن حيلة العجوز الفرنسي المخضرم في ثبات تركيز محاوريه الإيرانيين على الأشياء الحقيقية الملموسة بدلاً من الترهات والمجردات التي لا طائل من ورائها. وكانت خطوته التالية هي ربط ما يريده محاوروه بما يريده الفرنسيون وإظهار قدر كبير ومعتبر من التوافق بين الرغبتين، الأمر الذي يؤدي إلى التوصل إلى اتفاق يمنح الجانبين أغلب إن لم يكن جميع ما يريدونه.
يبدو، ومن جميع الأوجه المعتبرة، أن وصفة لودريان قد فشلت في طهران.
لقد فشلت الوصفة، التي نجحت في العديد من البلدان، في تحقيق القدر نفسه من النجاح في إيران.
ويأتي فشل لودريان في مؤخرة سلسلة طويلة من تلك العطاءات المقدمة من جانب القوى الكبيرة والمتوسطة والصغيرة التي تحاول، كما وصفها الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، «جلب إيران إلى حلبة الرقص».
وهناك العديد من الأسباب التي تقف وراء هذا الفشل.
أولاً، هو حقيقة أنه لدينا نوعان من إيران: الأولى هي «إيران الدولة القومية» ذات المصالح، والمخاوف، والتطلعات الطبيعية على غرار أي دولة قومية أخرى على سطح الأرض، والأخرى هي «إيران الثورة» ذات الأحلام غير الراشدة والطموحات غير العقلانية كما هي الحال لدى الثورات كافة.
وتعني هذه الازدواجية أن إيران في حالة عجز مستمرة تمنعها من صياغة سياسة واحدة ومتماسكة إزاء أي قضية كانت، داخلية أو إقليمية أو دولية، وذلك بسبب التضارب المفزع بين مصالح وطموحات الإيرانتين، إذ نادراً ما يتفق الدكتور جيكل والمستر هايد على مسألة واحدة أبداً.
ونظراً لأن إيران تعاني من مشكلة ذاتية عميقة، فمن الضروري أن تكون لديها مشكلات مع جميع الأطراف الأخرى من حولها.
وعندما سأل لودريان المسؤولين في طهران: ما الشيء الذي يريدونه بكل وضوح؟ كانوا عاجزين تماماً عن تقديم إجابة واضحة ومحددة. ونظراً لعجزهم عن الإجابة الواضحة والصريحة، تصرفوا كما لو أنهم يريدون الحصول على كل شيء، بدلاً من طلبات محددة ومميزة يسهل التفاوض بشأنها.
والمطالب الكلاسيكية للدول القومية التي تتصرف بمثل هذه الطريقة ليست بطولية بأي حال.
فالدولة القومية ترغب في الاحترام، والأمن، والحدود المرسومة بعناية، والتجارة، والحصول على الموارد الطبيعية، وتقاسم الأسواق، والتعاون الاقتصادي، والتبادل الثقافي، وما شابه. ويمكن تلبية جميع هذه المطالب. وفي حالة جميع أعضاء الأمم المتحدة البالغ عددهم 198 عضواً، يجري الوفاء بهذه المطالب بصورة روتينية معهودة. بيد أن الجمهورية الإسلامية هي إحدى تلك الاستثناءات إلى جانب كوريا الشمالية، وفنزويلا، وزيمبابوي حتى رحيل روبرت موغابي.
غير أن الثورات لا تتغذى إلا على دعواتها التبشيرية الواهمة.
فلا يمكنها السعي لأن تكون جزءاً من الحالة الراهنة الرمادية التي من شأنها الإتيان على كل ما تبقى لها من جذوات لهيب باهتة. فلا بد لها أن تظل صامدة، وذات قبضة صارمة، وتدعي آيات البر والنقاء والصفاء التي لم تحظ بها يوماً ولكن طالما تفاخرت بها أمام الجميع.
والخطأ الثاني الذي ارتكبه لودريان، تماماً كما وقع فيه ساسة لا عدد ولا حصر لهم من قبله، كان اعتقاده بأن يتفاوض مع مجموعة أصيلة من صناع القرار. ومع ذلك، فإن الحقيقة هي أن الرئيس الإيراني ومجلس وزرائه في الجمهورية الإسلامية ليسوا في الأساس سوى حفنة من الممثلين البارعين الذين يؤدون أدوارهم المرسومة لهم بكل حرص وعناية في نص مسرحي سياسي مفتوح ودائم المراجعة والتنقيح.
ومن الواضح أنه في النظام الخميني تخضع إيران لحكم «الدولة العميقة» التي يقف على رأسها المرشد الأعلى للثورة، إلى جانب حفنة من المستشارين العسكريين والمدنيين الذين يشكلون فيما بينهم الحكومة الموازية في منزل الزعيم علي خامنئي.
فإن رغب المرء في تحقيق النتائج في إيران فلا بد من الحديث مباشرة وحصرياً إلى علي خامنئي. وهذا بالضبط ما صنعه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عندما زار طهران، إذ إنه انتقل مباشرة من المطار إلى منزل خامنئي، وقضى هناك بضع ساعات في اجتماعه مع الرجل، قبل أن يعود أدراجه إلى المطار ويرجع إلى بلاده. ولم يضيع بوتين وقته سدى مع نظيره الاسمي الرئيس حسن روحاني، ناهيكم بجوقة الممثلين المعروفين باسم مجلس الوزراء.
وإن كانت المعلومات التي بحوزتنا صحيحة، فإن لودريان رغب في الحصول على أمرين؛ الأول، هو تعهد من إيران بأنها لن تعمل على تطوير الصواريخ بعيدة المدى القادرة على حمل الرؤوس النووية، وهو مطلب تقدم به الرئيس الأميركي دونالد ترمب بدعم من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. والحقيقة مفادها بأنه لا روحاني ولا وزير خارجيته محمد جواد ظريف يعلمان الكثير من التفاصيل عن المشروع الصاروخي الإيراني، ناهيكم بكونهما في وضع يتيح لهما فعلياً حق الموافقة على «مرحلة تجميد المشروع».
ولقد صدرت الأوامر من قِبل «محركي العرائس» المعروفين بالرد على هذه المطالب بالإجابة الصارمة «كلا». وانتهت المناقشات عند هذا الحد.
وكان المطلب الثاني من لودريان يتعلق بتخفيض إيران لتدخلاتها الراهنة في المستنقعين السوري واليمني.
ومرة أخرى، فإن هذا قرار يفوق منزلة كل من روحاني أو ظريف. فهذان لا علم لهما على الإطلاق بمقدار الأموال التي تنفقها إيران بغية المحافظة على بشار الأسد ونظام حكمه ومخبئه الدمشقي. وليست هناك بيانات من هذا النوع في الميزانية الرسمية للدولة التي تُعرض على الرئيس حسن روحاني. ويكمن السبب في أن الأموال المخصصة لجهود «تصدير الثورة» تأتي من الحساب الخاص بمنزل زعيم الثورة علي خامنئي. والأموال المنقولة إلى هذا الحساب الخاص منشؤها من مصادر متعددة ومتنوعة بما في ذلك تعريفة واحدة مجتزأة من الجمارك المفروضة على السيارات المستوردة كافة التي تدخل البلاد. كما يملك حساب منزل الزعيم أيضاً 32 شركة تتاجر في النفط الإيراني والمنتجات النفطية في الداخل والخارج، وتخضع هذه الشركات لتصنيف القطاع الخاص الإيراني لتفادي التدقيق والمراجعة الحكومية.
لقد أراد وزير الخارجية الفرنسي أشياء من أولئك الذين لا يملكون شيئاً قط، وتجاهل في الوقت ذاته أولئك الذين يمكنهم توفير وتسليم السلع والبضائع، ولكنهم لن يفعلوا بسبب سيناريو سوق السجاد التقليدي الذي تبدأ فيه بطلب خصم بسيط على السجادة المرغوبة، ولكن ينتهي بك الأمر بشراء السجادة نفسها، ولكن بضعف السعر الأصلي الذي كنت ترفضه في البداية.