الجمعة , 15 نوفمبر 2024
suleiman-jawda

مدى الحياة!

((الواقع الجديد)) الخميس 1 مارس 2018 

سليمان جودة

 

أذاعت وكالة «شينخوا» الصينية للأنباء، خبراً قبل أربعة أيام، لا يزال مثار تساؤل، واستغراب، ودهشة، ولا بد أنه سيظل كذلك إلى أن تتضح أبعاده لدى المتابعين للشأن الصيني العام من بعيد!… أما المتابعون للشأن نفسه من أبناء البلد، فلم يظهر شيء بعد، يشير إلى الطريقة التي استقبلوا بها ما أذاعته الوكالة الرسمية!
الخبر يقول إن اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني الحاكم، تقدمت باقتراح يقضي بإلغاء النص الدستوري الذي يجعل بقاء الرئيس في منصبه، عشر سنوات بحد أقصى، على فترتين رئاسيتين متتاليتين!
والأخبار الواردة من هناك تقول إن الرئيس الحالي شي جينبينغ، سوف يُكمل فترة رئاسته الأولى في الخامس من مارس (آذار) الحالي، ويومها سوف يجري انتخابه لفترة ثانية مدتها خمس سنوات، وعند نهايتها سوف يكون عليه أن يغادر منصب الرئاسة، إذا ما بقي النص الدستوري على صورته الراهنة… أما إذا جرى تعديله، وإذا جرى الأخذ باقتراح اللجنة، فسوف يكون الصينيون أمام أمر آخر، وسوف يكون في إمكان الرئيس شي جينبينغ أن يبقى في المنصب إلى ما شاء الله؛ لأن الاقتراح يطلب إلغاء النص الدستوري من أساسه، ولا يطلب تعديله ليكون ثلاث فترات مثلاً، أو أربع، أو أكثر، أو أقل!
والشيء الذي يبعث على الحيرة، أن اللجنة وهي تقدم اقتراحها المفاجئ، لم تحاول أن تبرره أو تفسره… إنه اقتراح في سطرين بالكثير، دون أن يكون مقترناً بأي تفاصيل تشرحه!
والمسألة بالطبع راجعة في النهاية إلى اللجنة… ومن قبل اللجنة، إلى الحزب والدولة هناك… ومن قبل الجميع إلى الشعب الصيني ذاته؛ فهو صاحب الشأن، وصاحب الرأي، وصاحب المصلحة، ثم إنه كذلك يظل صاحب القرار الأخير!
لكن هذا كله لا يمنع من التفكير بصوت مرتفع، في القضية، بصفتها قضية سياسية عامة؛ لأنها ليست قضية سياسية عامة، وفقط، لكنها قضية سياسية عامة عابرة للحدود… والمعنى أنها تبقى مطروحة في نُظم الحكم الجمهورية جميعاً، وليس في الصين وحدها!
ولأن القضية لها هذه الطبيعة، فإنها لا تكاد تختفي من دولة، حتى تظهر في دولة أخرى، ولا تكاد تنحسر باعتبارها تياراً أو اتجاهاً في منطقة ما، من العالم، حتى تكون قد عادت في موجة من موجات المد، في بقعة من بقاع الأرض… ومن جديد!
وقد كنا في مصر على موعد معها في مايو (أيار) 1980، عندما قرر الرئيس السادات تعديل النص الدستوري المماثل، في الدستور المصري، ليسمح ببقائه في الحكم لمُدد أخرى، بعد أن كان بقاؤه قبلها لمدتين اثنتين فقط، كل مدة ست سنوات لا تزيد… وكان الطريف أن التعديل الذي أثار جدلاً واسعاً وقتها، قد أدخل على النص الدستوري حرفاً واحداً لا غير!
فالنص قبل التعديل كان يُتيح للرئيس التجديد «لمدة أخرى»… لكنه بعد التعديل أتاح البقاء «لمدد أخرى»… فكأن حرف الدال بين كلمة مدة، وبين كلمة مُدد، هو الذي قلب الدنيا في الدستور، وخصوصاً في المادة المتعلقة بفترة بقاء رئيس الجمهورية، من حال إلى حال!
والأكثر طرافة، أن السادات الذي عدّل الدستور، لم يستفد من التعديل في شيء، فغادر دنيانا بعدها بعام وأشهر عدة، لينتفع بها الرئيس مبارك الذي لم يكن هو الذي عدل، ولا هو الذي خطط للتعديل، ولا هو الذي فكر في الحكاية من الأول إلى الآخر!
وإذا كتب الله لتعديل لجنة الحزب الشيوعي أن يمر، فأعتقد أن الأميركي فرنسيس فوكوياما، سيأتي إلى قمة الحكومات في دبي، في العام المقبل… إذا أتى… ليقول في الصين كلاماً مختلفاً، عن الكلام الذي وقف يقوله عنها هي نفسها في قمة هذا العام!
ففي القمة السادسة التي انعقدت في فبراير (شباط) الماضي، كان فوكوياما على موعد مع جمهورها، في لقاء حاشد أداره الدكتور أنور قرقاش، وزير الدولة في الإمارات للشؤون الخارجية، وكان كلامه في جانب منه عن أحوال الصين، وعما ستكون عليه في المستقبل المنظور… ومما قاله عنها، إنها ستحكم العالم في العقد الثاني من هذا القرن… أي بعد ثلاث سنوات من الآن… وإن حكمها سيكون في صورة قوانين تضعها هي، لتتقيد بها باقي الدول، بما في ذلك الدول الكبيرة طبعاً!
ومعلوم أن اقتصاد الصين هذه الأيام، هو الاقتصاد الثاني في العالم، بعد اقتصاد الولايات المتحدة، وأن الاقتصاد الياباني كان هو الثاني إلى وقت قريب، لكن الاقتصاد الصيني أزاحه واحتل مكانه، ويسعى الصينيون من وقتها إلى أن يزيحوا الاقتصاد الأميركي ذاته من المكانة الأولى، ليتربعوا هم على رأس اقتصادات مختلف الدول!
والراجح أن قفز اقتصاد الصين فوق اقتصاد اليابان، كان لأن معدلات أدائه كانت عالية… وهي كانت عالية لأن النظام الجمهوري الذي تعمل في ظله كان ولا يزال حيوياً.. وهو كان حيوياً لأنه كان يعرف ذهاب رئيس، ومجيء رئيس آخر في مكانه، كل فترة، ليس لأن الذي ذهب كان سيئاً، ولا لأن الذي جاء في مكانه كان أفضل منه، لكن لأن من شأن هذه الحيوية السياسية في حد ذاتها، داخل نظام الحكم الجمهوري، أن تخلق أجواءً من المنافسة، ومن المحاسبة، ومن المساءلة، ومن الأداء الأفضل في الآخر!
والأداء الأفضل يؤدي إلى حصيلة أفضل بالتأكيد… وهذا هو الشيء الذي فتح الطريق أمام اقتصاد الصين ليسابق اقتصاد اليابان فيسبقه!
وهو الشيء أيضاً الذي أغرى فوكوياما بأن يرى في حواره مع جمهور قمة حكومات دبي، أن حُكم الصين للعالم على مرمى حجر منا، وأنها شقت الطريق إلى ذلك، عبر اقتصاد راح يقوى يوماً تلو آخر حتى وصل إلى نقطة لم يجد أمامه فيها سوى الاقتصاد الأميركي!
ولم يصل اقتصاد حكومات الصين المتوالية إلى هذه المكانة بين اقتصادات الدول، إلا لأن الرؤساء فيه كنظام جمهوري، راحوا يتعاقبون فيما بعد ماو تسي تونغ، رئيساً من بعد رئيس، وكان هذا التعاقب في حد ذاته هو الفرصة التي تتاح في أنظمة الحكم التي من هذا النوع، لضخ دماء جديدة في أوصال البلد، وفي قنوات الاقتصاد، وفي شرايين الحياة وخلاياها بوجه عام!
وعندما تنغلق مثل هذه الدائرة من الحركة، ومن الحيوية، داخل أي نظام حكم جمهوري… لا النظام الصيني وحده… فإن الجمود يحضر، ثم يسود ويترسخ، ومن بعده تبدأ خطوات التراجع، ويتحول الوقت مع مروره إلى خصم بالسالب من التجربة كلها، بدلاً من أن يصب في خانة الإضافة!
ولا تعود الحيوية الظاهرة في المجتمع الأميركي إلى شيء، قدر عودتها إلى التزام حديدي بالدستور الذي هو أبو القوانين، وبالذات في المادة التي تحدد مدى بقاء الرئيس في البيت الأبيض… إن الالتزام الحديدي بها يجدد الحياة في الولايات الأميركية الخمسين دون استثناء، مرة كل ثماني سنوات، وأحياناً كل أربع سنوات… ورغم إعجاب الغالبية من دول العالم ذات الحكم الجمهوري، بهذا النموذج، فإن دولة واحدة منها، لا تفكر مرة في استدعائه على أرضها… ولو على سبيل التجربة.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.