((الواقع الجديد)) الخميس 1 مارس 2018
فهد الشقيران
في سبتمبر (أيلول) من عام 2006 فجّر البابا بنديكتوس السادس عشر قنبلة ستشعل حرباً إعلامية شعواء بين المسيحيين والمسلمين، حين وصف إبان زيارته لألمانيا الإسلام بأنه «دينٌ بلا عقل»، تصريح كان له دويّه حينها، وذلك لحيثية قائله بوصفه على رأس المؤسسة الدينية المسيحية بكل حمولة تاريخ الدماء التي تربطها بالإسلام طوال القرون. لقد كان للصراع بين الديانتين تحديداً أكبر الأثر في رسم الخرائط وتفجر الصراعات وانبعاث الثارات وتجدد رغبات الانتقام، ولهذا التاريخ سِفرٌ ضخم يحسن الرجوع إليه بعنوان «الأديان من التنازع إلى التنافس: لاسينج وتحدّي الإسلام» من تأليف: كارل يوسف كوشل، يتعرض تحليلياً للصراع اللاهوتي والكلامي، والتنافس الإبداعي، والصراع العسكري: «الحروب الصليبية» و«حروب فتح الأندلس والبلقان». لقد وعى العقلاء أن تصريح البابا المؤذي للمسلمين يمكنه أن يخلّ بالتوازن الأممي، وأن يعيد إلى الأذهان حروب الإلغاء وخطط الإبادة… حينها كان لا بد من إجراءٍ حاسم يحدّ من انتشار تلك النار.
بعد تصريح البابا بست سنواتٍ، وفي نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 2012، أعلنت السعودية افتتاح مركز الملك عبد الله العالمي لحوار أتباع الأديان في فيينا، وفي المؤتمر الصحافي المصاحب للافتتاح علّق الأمير الراحل سعود الفيصل على أهداف المركز قائلاً: «إن اجتماع أتباع الأديان والثقافات التي تؤثر على البشر في هذا المركز جاء ليجعلها في خدمة البشر ولأغراض السلام ونشر الخير على هذه الأرض ليكون عامل خير وأن تكون الخلافات المذهبية عنصراً للتفاهم وليس عنصراً للتصادم».
نعم… لقد كان لتأسيس المركز ردود فعل إيجابية عالمية، تم الرهان عليه من أجل لجم الاحتقان والتحفز الدائم بين أتباع الأديان لأي زلة لتسيَّر المظاهرات وتُحرق الصور وتُرفع الشعارات، ولنتذكر أن تصريحات البابا جاءت رغم كونه من كبار اللاهوتيين المسيحيين وكان يشغل مقعداً لتدريس اللاهوت وتاريخ العقيدة في جامعة راتيسبون منذ 1969، ودخل في حواراتٍ مهمة مع فلاسفة كبار في العالم مثل يورغن هابرماس، وذلك في خضم جدلية العلمنة والدين.
بمعنى آخر، فإن الكوارث تأتي ليس فقط من جموع العوام المتحمسين والمنقادين وراء رموز جاهلة متطرفة.
والآن ينعقد مؤتمر حوار الأديان في فيينا وتضج القاعات بالكلمات الهادئة، والرؤى الحالمة، والنكران الواثق لكل أحداث التاريخ… وعلى سبيل المثال في كلمته قال الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي الدكتور محمد العيسى: «إن الأديان بريئة من حروبٍ مورست باسمها» تصريح عام، ولكن التاريخ ينبئنا بأن من قام بالأعمال إنما انتموا إلى الأديان بطريقة متطرفة نمّت نزعات الحرب مع إرادات التغلب السياسي والطمع بالنفوذ الجغرافي والاستئثار الاقتصادي، وعليه فإن تبرئة التاريخ ليست ضرورية من أجل إنعاش قيم حوارية بين الأديان، فتاريخ كل أمة مليء بالحروب والإبادات، فلا معنى لاجترار التاريخ على سبل التبرئة أو الإدانة، هذا مع تثمين تأكيد الدكتور العيسى قيم التنوير والتعددية الدينية وحرية الإيمان.
ثمة مشكلة كبرى تحدث الآن بعيداً عن مؤتمراتٍ قد لا تنتج عنها توصيات عملية يمكن تنفيذها، فإن الأديان اليوم تنتشر معاركها عبر وسائل وصيغ أخرى، أمرٌ حذّر منه الفيلسوف جاك دريدا في كتابٍ مشتركٍ مع جياني فاتيمو بعنوان «الدين في عالمنا». بمداخلته يحذّر من انفلات الحروب الدينية «السيبرانية» عبر الثقافة الرقمية والتلفزة، ثم يضيف: «علينا أن نولي كبير عنايتنا إن أمكن لما يشكل حالياً جوهر الدين، وأن نتفحّص ما يقال ويعلَن الآن باسمه في العالم وفي التاريخ». وكلام دريدا هذا تعكسه الآن الحروب الطاحنة بين القنوات الدينية والمذهبية المتنازعة إما بين الأديان وإما بين المذاهب داخل الدين الواحد.
إن حوارات الأديان يجب أن تنطلق من معايير علمية لا سياسية، فالخطاب الدبلوماسي مهم في بعض الأحايين، ولكن حين يجتمع رموز الأديان في قاعة واحدة عليهم أن يكونوا صرحاء بما فيه الكفاية، أن يتحدثوا مع الآخر بوضوح وأن يحاججوه، وأن يبدأوا بالنقاش والحوار حول الأديان ومصائرها ونواحي الاختلاف، فالتركيز على المشتركات لا يحوّل الحوار إلى سجالٍ معرفي، بل إلى لقاء بروتوكولي ودّي، وهنا يحدث أن تترهل المؤسسة لتفقد دورها وقيمتها على المدى البعيد، فكما تتحاور الآيديولوجيات في القاعات والأكاديميات بيمينها ويسارها وتخلص إلى كراريس مهمة ومدونات مفيدة، كذلك الأمر لدى رموز الأديان عليهم أن يُحيوا النقاش بدلاً من الطمأنة والرؤى الحالمة.
في حوار هابرماس مع البابا بنديكتوس قال الفيلسوف الألماني – وهو ملول من تكرار البدهيات: «من اللازم على الوعي الديني أن ينجح في صيرورة اندماجية في المجتمع الحديث، ويعتبر كل دين في الأصل تصوراً عن العالم أو فهماً عقائدياً يطالب بحقه في السلطة لكي يبني شكلاً من أشكال الحياة في كلّيته، لكن على الدين أن يستغني عن هذا الحق، والحقّ في احتكار التأويل وتنظيم الحياة الشاملة نظراً إلى شروط علمانية العلم، ومحايدة سلطة الدولة، والحرية الدينية الشاملة».
نعمّا هي الحوارات بين الأديان، ولكن تقنياتها وأدواتها ومستوى صراحتها وطرحها تحتاج إلى غربلة وتجديد يتوازى مع مستوى التحديات ومصائر الصراعات.