((الواقع الجديد)) الجمعة 23 فبراير 2018
ليونيد بيرشيدسكي
من بين الأمور التي يحرص بوتين على ضمان تحقيقها قبل الانتخابات، عدم تراجع القدرة الحقيقية على الإنفاق لدى الروس حسب الإحصاءات الرسمية. وعليه، عملت الوكالة الحكومية للإحصاءات على ضمان ذلك.
من جانبها، أفادت الوكالة الحكومية، الاثنين، بأنه في يناير (كانون الثاني) لم يطرأ تغيير على القدرة الحقيقية للإنفاق بين الروس عن يناير 2017. ومن أجل الخروج بهذه النتيجة، اضطرت الوكالة إلى التغاضي عن مدفوعات المرة الواحدة البالغة 5.000 روبيل (88 دولاراً) التي جرى صرفها للمتقاعدين الروس في يناير 2017؛ الأمر الذي بررته بأنه «لأغراض تتعلق بعقد المقارنة».
من جانبهم، انتقد عدد من الخبراء الاقتصاديين الروس القرار باعتباره تلاعباً في الحقائق. ومع ذلك، لم تمنع هذه الاعتراضات بوتين من ادعاء نجاحه في وقف التراجع الذي تعرضت له دخول الروس على امتداد سنوات عدة.
ويعتبر هذا التراجع الصداع الأكبر فيما يتعلق بالفترة الرئاسية الرابعة لبوتين. كان النمو الاقتصادي قد استعاد تعافيه بعد تراجعه على امتداد عامين عام 2017، وكذلك الحال مع نمو عائدات بيع التجزئة، لكن الفضل الأكبر وراء ذلك يعود إلى الميل المتزايد من قبل الروس للحصول على قروض استهلاكية (بعد تراجع بنسبة 35 في المائة عام 2015). من الناحية الاسمية، عادت معدلات تسليف المستهلكين لما كانت عليه عام 2014.
من ناحيته، عمد بوتين وحكومته إلى تحقيق أكبر فائدة دعائية ممكنة من وراء نجاح جهود التصدي للتضخم، الذي بلغ 2.5 في المائة فقط العام الماضي. كان المستوى المنخفض على نحو استثنائي لنمو الأسعار قد سمح للبنك المركزي بتقليص معدل الفائدة الأساسي لديه إلى 7.5 في المائة؛ ما جعل الاعتمادات متاحة على نطاق أوسع. ومع هذا، فقد تراجعت القدرة الحقيقية على الإنفاق إلى 1.7 في المائة، رغم أن وزارة الاقتصاد كانت قد توقعت لها تحقيق نمو بنسبة 0.2 في المائة.
من جهتها، ليس ثمة سبب يدعو الشركات الروسية إلى زيادة الرواتب؛ ذلك أن إجمالي صافي الأرباح التي حققتها تراجع بنسبة 4 في المائة عن العام الماضي، تحديداً الفترة من يناير حتى نوفمبر (تشرين الثاني) 2017. وفي ظل اقتصاد تسيطر عليه الحكومة على نحو متزايد ـ يعتبر الإعلان في الفترة الأخيرة عن استحواذ شركة «في تي بي» المملوكة للدولة على ثاني أكبر شركة بيع تجزئة، «ماغنيت»، المثال الأحدث على هذا التوجه القائم منذ فترة بعيدة ـ يظل إنفاق الدولة السبيل الأمثل والأقدر لزيادة القدرة الشرائية الحقيقية لدى المواطنين.
وقد عانت روسيا من عجز في الميزانية بلغ 1.7 في المائة عام 2017، ومن المتوقع أن يبلغ العجز 1.3 في المائة هذا العام، تبعاً لتوقعات «بلومبيرغ». في المقابل، فإن ارتفاع أسعار النفط لم ينجح في القضاء بصورة كاملة على التراجع الذي حدث في العوائد الحكومية. وبالتالي، فإنه ليس ثمة مساحة لإعانات حكومية ضخمة على مدار المستقبل المنظور دون حدوث زيادة كبيرة في الديون.
من جهتها، أشارت «بلومبيرغ» إلى أن هذه الزيادة في الديون هي تحديداً ما يدعو إليه المساعد الاقتصادي لبوتين، أندريه بيلوسوف، أحد كبار مناصري فكرة التحفيز المالي منذ فترة طويلة، وكذلك نائب رئيس الوزراء إيغور شوفالوف، الذي يتسم عادة بتوجهات أكثر محافظة، ووزير الاقتصاد ماكسيم أوريشكين. وتبعاً للتقرير غير المؤكد الذي نشرته «بلومبيرغ»، فإن هذه الأصوات الداعية لزيادة الديون تطالب برفع معدل الديون بالنسبة لإجمالي الناتج الداخلي في روسيا إلى 16 في المائة، بدلاً عن المستوى الحالي البالغ 12.5 في المائة، وذلك خلال الفترة الرئاسية المقبلة لبوتين. وتدور الفكرة الأساسية حول تحفيز النمو من خلال إقرار زيادة كبيرة في معدلات الاقتراض تصل إلى 15 تريليون روبيل (265 مليار دولار) لإنفاقها على استثمارات بمجال البنية التحتية، بما في ذلك بناء طرق سريعة وسكك حديدية.
في الواقع، ليس هناك خطأ في زيادة الديون التي تتحملها الحكومة، وبخاصة إذا استعادت السندات الروسية درجة التصنيف الاستثماري السابقة لها ـ احتمالية تبدو قوية بالنظر إلى عدم وجود عقوبات أميركية جديدة، والتي كان يمكن أن تخلق حاجزاً بين روسيا والكثير من المؤسسات الاستثمارية. وحتى إذا لم يكن التوسع في الاقتراض من جهات أجنبية خياراً قائماً، فإن السوق المحلية في استطاعتها امتصاص المزيد والمزيد من الديون الحكومية مرتفعة العائد نسبياً. جدير بالذكر، أنه مقارنة بالمستويات الأوروبية والأميركية، تعد الديون الروسية منخفضة؛ ما يجعل روسيا قادرة على تحمل تبعات اقتراض المزيد.
ومع هذا، يبدو أن ثمة نفوراً غريزياً لدى بوتين من الديون. يذكر أنه عندما تولى مقاليد السلطة بالبلاد عام 2000، كان معدل الديون بالنسبة لإجمالي الناتج الداخلي في روسيا أكثر عن 50 في المائة. وشرع بوتين في استراتيجية ترمي لتقليص هذا المعدل، وبالفعل نجح في الوصول به إلى 7.4 في المائة عام 2008. بعد ذلك، بدأ المعدل في التنامي جراء الأزمة المالية العالمية وبلغ ذروته بوصوله إلى 15.9 في المائة خلال عام 2015 الذي سادته حالة من الركود، لكنه تراجع منذ ذلك الحين. ويبدو تفضيل بوتين للإدارة المالية المحافظة؛ الأمر الذي انعكس على التحسن الملحوظ في المركز المالي الروسي الخارجي عام 2017 ـ وزيادة الاحتياطيات الأجنبية بمقدار 11.7 مليار دولار، وزيادة صافي الاستثمارات الأجنبية بمقدار 48.9 مليار دولار ـ متعارضاً مع ميله القوي نحو تعزيز الوجود الحكومي على الصعيد الاقتصادي.
ويبدو ذلك صراعاً داخلياً يتعين على بوتين حسمه أثناء فترة رئاسته المقبلة التي تمتد لست سنوات. ومن الممكن استغلال زيادة الإنفاقات بصورة ضخمة على مشروعات البنية التحتية في مكافأة رجال الأعمال الموالين للنظام، وبخاصة أصدقاء بوتين؛ وذلك لما أبدوه من صبر حيال المواقف الجيوسياسية التي يتخذها بوتين وتترك تبعات غير مريحة على الاقتصاد.
وما من شك أن البلاد في حاجة بالفعل إلى مثل هذه الزيادة في الإنفاقات على البنية التحتية. جدير بالذكر، أن الأرقام تكشف أن الاستثمارات الحكومية بمجال البنية التحتية تراجعت إلى 2 في المائة من إجمالي الناتج الداخلي من ما يقرب من 4 في المائة عام 2012. في المقابل، يتوقع «تقرير توقعات البنية التحتية العالمية» الصادر عن مجموعة الـ20 أن «الفجوة الاستثمارية» في روسيا ـ الفارق بين ما يجري إنفاقه على الطرق والمطارات والاتصالات عن بعد وشبكات المياه والطاقة، وما تحتاج إليه البلاد بالفعل ـ ستصل إلى 727 مليار دولار بحلول عام 2040.
في الواقع، من المتعذر على النظام الروسي تجاهل مصالح مواطنيه تماماً. وبالتالي، فإن التساؤل هنا ما إذا كان بوتين بمقدوره المعاونة في تلبية هذه المصالح دون فقدان جزء من سيطرته على الاقتصاد.