(( الواقع الجديد)) الاربعاء 21 فبراير 2018
اميل امين
أظهر مؤتمر ميونيخ للأمن القومي الذي انتهت أعماله قبل بضعة أيام أن العالم قد قارب بالفعل حافة الهوية، وبات السؤال المعلق: هل من فرص للعودة؟ أم أن «السيف سبق العذل»؟
الأسئلة المثيرة للقلق في المؤتمر الذي يمثل منصة فريدة من نوعها على مستوى العالم لبحث الإشكاليات الأمنية، وباباً خلفياً لتواصل الكبار بشكل غير مرئي في ممراته، وكذا غرفه الخلفية وكواليسه السرية، كانت أكثر كثيراً من الإجابات في عالم حائر مضطرب.
جدير بنا الإشارة إلى أن الأوروبيين كانوا أكثر الأطراف سعياً لإيجاد رؤية مستقبلية للاتحاد الأوروبي، بعد أن أظهر الأميركيون خلال عام ترمب الماضي توجهات سياسية وعسكرية تجعل من التفكير في حماية أوروبا شأناً خاصاً بالأوروبيين، الذين باتوا منحصرين بين تنامي القوة والنفوذ الروسي من جهة، والمد القومي اليميني داخل القارة العجوز من ناحية ثانية.
لعل أهم القضايا التي نوقشت في ميونيخ كانت تتصل بالحرب، أو إن شئت الدقة قل الحروب المقبلة، ذلك أنه عطفاً على الحروب الكلاسيكية بشقيها العسكري التقليدي والنووي، يكاد العالم يخشى انفلات نوع جديد من الحروب السيبرانية الكفيلة بدورها بتدمير الأرض من قبل مختلي العقل أو العقلاء معاً، حال وصولهم إلى مراكز قيادة المواصلات والنقل براً وبحراً وجواً، مروراً بمحطات المياه والجسور والأنفاق، وصولاً إلى المصانع والبنوك، وفيروس «رانسوموير» الفتاك قبل عامين لا يزال حاضراً، أما الطامة الكبرى فتتمثل في قدرة مثل هؤلاء على الولوج إلى القواعد العسكرية أو الصواريخ المحملة بالرؤوس النووية.
على أن عموم القضايا التي طرحت لا تمنعنا من تأمل بعض الحقائق، وكذلك الأكاذيب التي طرحت خلال جلسات المؤتمر.
من تلك الحقائق على سبيل المثال، ما تحدث به مستشار الأمن القومي ماكماستر عن الدور الإيراني في تبني وتسليح شبكة قوية من الميليشيات والوكلاء على نحو متزايد في دول شرق أوسطية مثل سوريا واليمن والعراق، وعنده أنه حان الوقت «للتصرف ضد إيران».
هنا يعن لنا التساؤل: هل ينوي الأميركيون بالفعل قيادة العالم لتحجيم وتلجيم الملالي؟
الشاهد أننا حتى الساعة نستمع من الأميركيين إلى شعارات وتصريحات كلامية، فيما الإيرانيون يعملون ويتمددون دون قعقعة أو أحاديث، ما يجعلنا في حيرة عقلية، إننا نريد فعلاً لا قولاً ضد النظام الإيراني؟
مشهد آخر يبين التهافت الأميركي أيضاً في التعاطي مع القضايا الفتاكة إن جاز التعبير، وفي مقدمتها «الإرهاب»، وقد خصص القائمون على المؤتمر جلسة بعنوان «الجهاد فيما بعد الخلافة»، شارك فيها رموز لقيادات الاستخبارات الأميركية والأوروبية، ووزير الخارجية المصري سامح شكري.
رفض الوزير شكري بداية عنوان الجلسة، لا سيما أنه يربط بين الجهاد و«داعش»، والفارق بينهما لا يمد ولا يحد، فالجهاد فكرة تبدأ من عند الانتصار على الذات ومغالبة الشهوات، وصولاً إلى الدفاع الإيجابي والخلاق عن طرح دوغمائي أو آيديولوجي، فيما الذي رأيناه ورآه العالم من «داعش» لم يكن إلا توحشاً وبربرية لا علاقة لها بالإسلام، كما أن استعمال تعبير الخلافة في أيامنا هذه استناداً إلى رؤية «داعش»، تعبير متهافت، خصوصاً أن كثيراً من عصور الخلافة حوى تنويراً إنسانياً وصل إلى أوروبا عينها، أما أفعال «داعش» فلا يجعل من نصيبه إلا وصف «التنظيم الإرهابي».
في الجلسة عينها تساءل الوزير المصري: من الذي سمح للدواعش بالخروج من الرقة؟ ومضى في تساؤلاته: «من يقوم على إيصال متفجرات الـC4 القاتلة بعبوات مصانعها إلى الإرهابيين في سيناء، مع العلم أن هذه المادة منذ تصنيعها في أوروبا الشرقية وهي مراقبة بالأقمار الاصطناعية لحين وصولها إلى من هم مسموح لهم بشرائها؟
مشهد ثالث من الأضاليل تمثل في كلمة أمير قطر الذي حاول تقديم صورة المصلح الديمقراطي، مبرراً الإرهاب بربطه بالسياقات الديمقراطية… «الشعوب بدأت تفقد إيمانها بحكوماتها ولا تجد وسيلة للتغيير سلمياً»… هكذا تحدث تميم، لكن عن أي ديمقراطية أو حرية تعبير يتحدث، وهو من يسجن الشعراء على شعرهم والكتاب على آرائهم، ناهيك بسحب جنسيات السياسيين المنافين لتوجهاته التي قادت قطر إلى عداوة الجيران والأشقاء؟
المشاركون في أعمال ميونيخ لم تنطلِ عليهم هذه الأضاليل فقد رأوا طرد مراسلي قناة الجزيرة شر طردة، فيما أميرهم يمارس الأضاليل التي توفر للدواعش والإرهابيين الغطاء لممارسة إجرامهم.
لقد كان لفنغانغ إيشينغر مدير معهد ميونيخ الدولي للأمن والسياسات الدفاعية صادقاً «في إشارته إلى أن العالم اليوم يعيش توتراً شديداً متنامياً في العلاقات الدولية والمناطقية بين الدول، ما يهدد باندلاع حروب جديدة، أما الكارثة الكبرى فنجدها تمتد من موسكو إلى واشنطن في خطر لم تره البشرية منذ أكثر من ثلاثين عاماً، وفي ظل حالة من انعدام الثقة المتبادلة بين القيادات العسكرية في البلدين».
ترى هل من فرصة للنجاة والعودة عن حافة الهاوية في عالم أشبه بعشية الحرب العالمية الأولى؟ أم أن «عبث الإقرار» يقود العالم إلى مصير محتوم في اللوح المحفوظ؟