((الواقع الجديد)) الخميس 15 فبراير 2018م
حنا صالح
من إسقاط «السوخوي» بصاروخ محمول غضت واشنطن النظر عن كيفية وصوله لأيدي من استخدمه، إلى إسقاط الـ«إف16» الإسرائيلية، درة الإنتاج الحربي الأميركي، بصاروخ سام بيد سورية وأوامر إيرانية وتواطؤ من «حميميم»، أو أقله غض نظر روسي، لم يعد النقاش حول إمكانية الحرب، حرب مختلفة، بقدر ما تدور التكهنات حول توقيتها ورقعتها ومن تخدم وما سينجم عنها… لكن حتى الآن القيود والعقبات كبيرة، وقد يستمر كل شيء تحت السيطرة، كما في الوقت نفسه لا يجوز التغاضي عن السيناريوهات المخيفة.
الصدام الإيراني – الإسرائيلي، فوق أراضي سوريا الروسية (والتعبير لـ«الشرق الأوسط») بدا تحت الكونترول؛ لأنه ما من ضوء أخضر الآن لما هو أوسع؛ فالحدث وقع قبل أيام من جولة الوزير تيلرسون، وقبل فترة من انتخابات رئاسية روسية يريد منها الرئيس الروسي تجديداً يكون الانعكاس لما وصفه بالانتصار فوق المسرح السوري… لكن ما جرى كبير جداً: إسقاط الطائرة الإسرائيلية وإصابة ثانية خطفا الأضواء، وإعلان مريدي الممانعة المبتهجين من طهران إلى نظام دمشق وفي لبنان، أن المعادلات القديمة سقطت، و«قواعد الاشتباك» تغيّرت، بمجرد إسقاط الـ«إف16»، ولو أن الأمر مثّل إسقاط طائرة واحدة فقط، بعد أكثر من 130 غارة إسرائيلية استهدفت مواقع وقواعد لقوات سورية أو إيرانية أو لـ«حزب الله».
«قواعد الاشتباك» هو الإنجاز الذي حققته رحلات نتنياهو المكوكية إلى موسكو، والقمم الـ7 التي عقدها مع الرئيس بوتين خلال أقل من سنتين، والترجمة كانت حرية مطلقة لإسرائيل في أجواء سوريا وضمناً لبنان، دون أي اعتراضٍ روسي؛ وهو الأمر الذي تتمسك به تل أبيب. وكي تكون الأمور جلية، فالرفض الإيراني لـ«قواعد الاشتباك» هذه، لا علاقة له بمنع الاستباحة الإسرائيلية للأجواء العربية، بل لأنه قد يحدُّ من السيطرة ويُحجِّم نفوذ النظام الإيراني. وما تلا إسقاط الطائرة الإسرائيلية أظهر أن تل أبيب متمسكة بهذه الاستباحة بذريعة منع نقل أسلحة وتكنولوجيا متقدمة إلى «حزب الله»، وأساساً لمنع ترسيخ وجود عسكري إيراني دائم في سوريا، فكانت الضربة الجوية الواسعة التي تلت إسقاط الـ«إف16» لقواعد سورية وإيرانية تأكيداً على التمسك الإسرائيلي بهذه المعادلة.
«أكثر من مواجهة وأقل من حرب» هذا هو الوصف الإسرائيلي لما جرى صبيحة السبت العاشر من الشهر الحالي، وهو وفق قائد المنطقة الشمالية في جيش العدو «تطور قد يؤدي إلى حرب حقيقية في أي لحظة»، وأن تل أبيب لن تسمح لإيران بإقامة قاعدة أمامية في سوريا… ويقول نتنياهو مهدداً «أوضحنا للجميع أن (قواعد الاشتباك) لن تتغير»… لكن ما فات جنرالات تل أبيب وجنرالات الحرس الثوري، هو أن كل قواعد اللعبة ليست واحدة، والمتغيرات تتالى كل يوم، وهذه الاستباحة للمسرح السوري ولكل شمال المنطقة العربية لم تعد منذ زمن حكراً عليهما، فالمنطقة تزدحم بكبار المتدخلين من واشنطن إلى موسكو، وأي حرب إقليمية فوق هذا المسرح لن تكون خارج ما يتم رسمه في مراكز القرار في واشنطن وموسكو وفي «حميميم» وشرق الفرات! لذا؛ كل شيء ما زال تحت الكونترول وأي مواجهة كما شهدنا، ستكون ممسوكة، والدليل غياب الصواريخ السورية كلية في حين كانت الطائرات المعادية تعود بعد إسقاط الـ«إف16» وتحرث القواعد والمطارات! مع العلم أن بعض الأوساط الصحافية نقلت عن خبراء روس أن دمشق «تمتلك منظومات دفاع جوي كثيرة ومتنوعة ولا تستدعي الحاجة إذناً روسياً لتشغيلها».
كان لافتاً سرعة تحرك موسكو التي أطلقت تحذيرات بكل الاتجاهات، وأشارت أكثر من مرة إلى القلق على الوجود الروسي من تفاقم التوتر في مناطق «خفض التصعيد». جوهر القلق الروسي هو الخوف من أن يهدد التصعيد نتائج جهود موسكو على مدى سنة ويزيد، سعت روسيا وفق مفهومها إلى تسوية، أولويتها ضمان وجودها العسكري الكبير ومصالحها الاقتصادية، ومن خلال ذلك العودة بصفتها لاعباً كبيراً على المستوى الدولي، لكن التسوية أياً كانت هي أكبر من أن تقررها جهة واحدة، وإن كانت الأوسع سيطرة في سوريا. بعبارة أخرى، لم يعد مجدياً الضغط الروسي لاستسلام المعارضة، المشكلة هي في محاولة الانفراد الذي أوصل إلى تعثُر «سوتشي»، حيث إن غياب المعارضة هو ما استأثر بالاهتمام؛ ما شكل إطاراً للمشهدية الحربية التي جرت السبت الماضي، وربما مثّلت عملية استباقية من جانب الإيرانيين والأسد، لما يمكن أن تسفر عنه مرحلة آتية، ولا شك من الاتصالات والمفاوضات الروسية – الأميركية، بعدما أكدت إدارة ترمب طي صفحة الإدارة الديمقراطية والتخلي عن مبدأ القيادة من الخلف! وتم تثبيت وضع شرق الفرات والبقاء الأميركي حتى إنجاز الحل السياسي، بعدما توزع المسرح السوري بين الروس والأميركيين، والذي سيفضي ولو آجلاً لأدوار متواضعة لكل الآخرين.
مع العودة الأميركية، ومشروع «اللاورقة» للدول الخمس؛ أميركا، وبريطانيا، وفرنسا، والسعودية والأردن، من أجل التسوية في سوريا، التي ترتكز على مرجعية جنيف والقرار الدولي 2254، ومناخ آمن لإجراء انتخابات تؤسس لمرحلة ما بعد الأسد، لا بد للنظام الإيراني إلاّ أن يكون قلقاً. في الطريق للتسوية الوضع بات متحركاً والمتغيرات تتالى، ولا يمكن لأي جهة أن تراهن على صدام بين موسكو وواشنطن، ولن ينفع الرئيس الروسي إمساك العصا من الوسط؛ فاتفاق هامبورغ وبعده وثيقة الفيتنام لجهة إخراج ميليشيات الحرس الثوري من الجنوب السوري لم يُطويا، والمؤشرات كبيرة أن مع بوادر التسوية الحقيقية، سيتحول نفوذ حكام طهران في سوريا إلى عبء على روسيا ودورها وطموحاتها، وجولة الوزير تيلرسون في المنطقة، ربما تبلور صيغة «قواعد اشتباكٍ» جديدة بشأن وجود ميليشيات الحرس الثوري الإيراني… بديل ذلك مواجهات بالواسطة، قد تلامس الحرب الشاملة، وتخرج أحياناً عن المرسوم لها؛ لأن فيها الكثير من استراتيجية التوريط في زمن لم يغادر الكابوس الأفغاني الذاكرة الروسية.