((الواقع الجديد)) السبت 10 فبراير 2018
خالد القشطيني
في هذه الأيام يسألني فيها القوم: ومتى تعود للعراق؟ أتوقف قليلاً لأتذكر برعب وقلق آخر زيارة لي في عهد صدام حسين. كنت مدعواً لمهرجان المربد. ودفعني الشوق للأهل والأصحاب لتلك الزيارة. كان بينهم المحامي حسن العمري. وجدته ينتظرني في الفندق. وارتجاني أن أخصص الليلة الأخيرة لمأدبة مع أصحابه وذويه في نادي الصيد المهيب. ما إن مددت يدي للطعام حتى سمعت أحدهم يهمس للأستاذ العمري: «نقول للأستاذ خالد أو لا نقول له»؟ تجهمت وجوه الحاضرين. «لا أبو فاروق مو وقتها». وأضاف آخر: «لكن ضروري يعرف». دخلوا في مناقشة هامسة انتهت بقرار واحد: «لا. مو الآن. نقول له بعدين بالسيارة حتى ما أحد يسمعنا»!
قلت لنفسي: «أعوذ بالله. في الحكاية سلاية». انقطعت شهيتي للأكل ودخلت مع نفسي في ملامة. كيف غامرت بنفسي وجئت للعراق؟ الله يلعن الشيطان»! خرجنا من المطعم وركبنا السيارة وانطلقنا. «الآن افتح الموضوع وقل له»! صح. ما أحد يسمعنا غيرنا. وانطلق العمري بالكلام: «أخ خالد، ضروري تعرف. أنا محام معروف ودقيق. كتابك الأخير فيه إشارات لصدام حسين تعني عقوبتي إعدام عليك. ولا تحدث عن الباقي». «هذا الكتاب…».
«أرجوك. ما يهمني أي كتاب. بس خلي الله يستر علي ها الليلة وأنا مغادر بغداد في الصباح الباكر غداً». قلت له مقاطعاً…
فاستأنف الكلام: «أخويا خالد، أنا أعرف معنى ما أقول. أنا ما قلت ربع ما أنت تقول بكتابك واعتقلوني ستة أشهر بالسجن. ولولا عشيرتي بيت العمري، وتوسطهم كان علقوني من المشنقة! يعني…».
عدت فقاطعته ثانية: «أستاذ حسن، ما أريد أسمع بعد أي كلام. بس ادع الله معي وأسلم على روحي ها الليلة وأرجع للندن وهذي آخر مرة أزور بلدكم».
انقطع الحديث وساد السيارة صمت رهيب حتى وصلنا الفندق. نزلت من السيارة ولم أتبادل السلام معهم. دخلت الفندق وبادرني ضابط الشرطة بالسلام. قلت لنفسي: «آه. أهذا الرجل هو المكلف باعتقالي»؟ أسرعت لغرفتي وقضيت ليلة من أتعس ما مررت به في حياتي. رحت أذرع غرفتي ذهابا وإيابا طوال الليل. أخذت حمامين عسى أن أهدئ أعصابي ولم ينفع. نظرت لساعتي. وأعدت النظر إليها عشرات المرات. ما لك يا عقرب الدقائق! تحرك يخليك الله! مرت الساعة الرابعة ثم الخامسة وأنا أعد الدقائق والساعات حتى أطلت أنوار الفجر. نزلت بحقائبي إلى الاستقبال. «وصلت السيارة»؟ أجابتني الموظفة المصرية: «لسه بدري يا أستاذ. استريح حتى تيجي سيارتك».
ووصلت السيارة مليئة بالشرطة. يا ساتر! حتماً جايين يعتقلوني! أدرت وجهي جانبا متستراً. «أستاذ القشطيني. تفضل معي»، قال الضابط. وكاد قلبي يسقط في حذائي. «وين غراضك»؟ سألني بأدب. أشرت إلى شنطتي فأسرع إليها وحملها. «من شفت اسمك بقائمة المغادرين قلت والله هذه فرصة أتعرف بكاتبنا الكبير». وانطلقت بنا السيارة لمطار صدام الدولي. ولكنها كانت ليلة لن أنسى أوجاعها ما دمت حياً.