الأحد , 24 نوفمبر 2024
mohammedalnughaimish

زامر الحي لا يُطرب!

((الواقع الجديد)) الثلاثاء 6 فبراير 2018 

محمد النغيمش

ربما لا يعلم البعض أن الأسترالي مبتكر «الصندوق الأسود» الذي يسجل المحادثات في قمرة القيادة بالطائرة، ويتحمل شدة المكوث في أعماق المحيطات والحرائق والارتطام بالأرض، لم يكن مرحباً بابتكاره في بلاده، رغم أنه يقدم معلومات دقيقة تمكن الشركات المصنعة للطائرات من تدارك الخلل في التصنيع واللوائح والقوانين. ومع ذلك كله اعتبر الجهاز «ليس ذا جدوى في الطيران المدني»، حسبما قرأت في موقع للحكومة الأسترالية. غير أن الإنجليز ما إن علموا به وجربوه حتى بدأوا في محاولة استخدامه، وهم الرواد في مسائل الأمن والسلامة. وربما يعود ذلك في أحد الأسباب إلى أن «زامر الحي لا يطرب»، وهي قضية تحدث في كل زمان ومكان.
فكم من عبقري بذكاء خارق تتلقفه أجهزة الاستخبارات الأجنبية ليكون عينها في ميادين «العدو». وكم من «عميل مزدوج» أجمع على عبقريته الفذة بلدان بعد أن سبق أحدهما الآخر في اكتشاف موهبته. وكم من فيلم أو شاعر مغمور في بلاده سلطت عليه أضواء الأوسكار أو شاعر المليون فتفتحت له آفاق المجد. وكم من مقطوعة من الفولكلور العربي المنسي سمعنا كيف يترنم بها أفراد الأوركسترا في أقاصي الشرق والغرب.
العلماء والمتخصصون على مر العصور أكثر من عانى عقدة «زامر الحي لا يطرب»، ولذا قالت العرب «أزهد الناس في العالم أهله وجيرانه». وقيل أيضاً إن «مثل العالم كالحمّة (أي العين الحارة الماء) يأتيها البعداء ويزهد فيها القرباء».
والأنبياء أنفسهم على مر العصور أول من حاربهم قومهم، حتى إنه قيل، كما في معنى الحديث الشريف، إن بعضهم سيبعث ومعه الرهط، والفرد والفردان من أمته، وبعضهم ما دون ذلك. وهذا دليل على أن رأي عامة الناس بنا ليس شهادة تقدير بالضرورة، مهما كانت عظمة المشروع أو الرسالة التي نحملها على عاتقنا. ولذا قيل «لا كرامة لنبي في قومه»، مع استثناءات معروفة.
وعدم تقدير الإنسان لبني جلدته يمتد إلى ما دون ذلك. فحتى البهائم تعاني من «زامر الحي لا يطرب»، كالإبل التي نتغنى في «جمالها» وسرعتها وفوائدها، لكن الدراسات الرصينة تأتينا من بوابة الغرب لتحطم معتقداتنا البالية عن «سفينة الصحراء» التي لا تستند في أحايين كثيرة إلى دليل علمي واحد.
وحتى البطريق الذي تندر على مشيته بنو جلدته في القطب الشمالي وغيرهم، قد تمكن العلماء الألمان من اكتشاف أن تلك المشية المثيرة للضحك، هي في الواقع أفضل طريقة تبين علمياً أنها تحافظ على توازن من يمشي على الجليد أو الأسطح الملساء المبللة باتباع أربع خطوات تجنبنا مخاطر الانزلاق. وهي تقوم على فكرة أن مركز جاذبية الإنسان في منتصف جسمه، فإذا ما أراد الاتزان لحظة سيره على تلك الأسطح الرطبة فإنه يجب أولاً أن يميل بجذعه كله نحو الأمام ماداً رجله أمامه ليتزن. ثانياً، يثني ركبته قليلاً ليخفض من مركز الجاذبية (منتصف جسمه). ثالثاً، يباعد قليلاً بين قدميه أفقياً ليشكل قاعدة عريضة تدعم مسيره واتزانه. وأخيراً يأخذ خطوة قصيرة ثم يجر القدم الخلفية ببطء نحو الأمام… وهكذا دواليك. وهذا ما ثبت علمياً أنه يساعد المرء على الاتزان.
حتى نكافح ظاهرة «زامر الحي لا يطرب» لا بد أن يتخلص المتميزون من الحساسية الزائدة في عرض قدراتهم «ليزاحموا السيئين» في المجتمع. ويمكن أيضاً أن تنشئ المنظمات العامة والخاصة بنكاً أو وحدة تجمع السير الذاتية للموهوبين في مجالات تهمها لاستقطابها عند الحاجة، فبالموهوبين والمتفانين في عملهم ترتقي الأمم وتتقدم، وبهذا ربما يجد زامر الحي من يرد إليه اعتباره.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.