((الواقع الجديد)) الخميس 25 يناير 2018م
فهد الشقيران
يتمتع المجتمع السعودي هذه الأيام بالمساحة التي يستحقها من الترفيه والجماليات وأشكال الفنون وعذب الشعر وجنون الرياضة ومنافساتها؛ كل الخيالات التي رسمت بذهن المجتمع وأهل السياسة بأن ما وراء الانفتاح سوى الغضب وانفلات القانون، واستهداف النساء والعائلات بان عوارها، أخطار وهمية رسمت خلال الثلاثين سنة الماضية، وكان للصحوة أكبر الأثر في نشر الدمامات الاجتماعية، وتحويل الدنيا إلى آخرة مبكرة على عكس مقصد الإسلام ومركزية الشريعة، الصحوة هي من روّجت لمفهوم خطير سبب الوسواس الاجتماعي وهو «الغفلة»؛ إذ يعتقدون أن إدمان المباحات ليس معصية ولكنه يؤدي إلى الغفلة وبالتالي ربما المروق من أصول الدين أو التهاون بأركانه. من خلال مفهوم الغفلة تم تدمير المجتمع وتشويهه، بل إن الثلاثين سنة الماضية بالفعل كانت عبارة عن اختطاف منظّم يجب أن يحارب ويلاحق ويُسحق المتسببون به.
الفكرة باختصار أن المجتمع عاد إلى «المباح» وهو الجزء الأوسع بالشريعة الإسلامية، بل هو المركز الفارز والضابط للمحرمات القليلة في آية «قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرمَ رَبُكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِنْ إِمْلَاق نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَاهُم وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَن وَلَا تَقْتُلُوا النَفْسَ التي حَرمَ اللَهُ إِلَا بِالْحَق ذَلِكُمْ وَصَاكُم بِهِ لَعَلَكُمْ تَعْقِلُونَ» سورة الأنعام (151). تم هجر مركز أساسي بالتأصيل الفقهي المعتمد على أصالة الإباحة في كل شؤون الدنيا، وقد تم استغلال تردد المباح بين المندوب والمكروه والمحرم لتحويل الكثير من المتروكات شرعاً، إذ لم ينصّ عليها رحمةً غير نسيانٍ كما في الحديث الصحيح، وبعد عصورٍ من الانحطاط وانتشار الحشوية الفقهية لدرجة تداول أثر وسواسي النزعة «إن استطعت أن لا تحك شعرك إلا بأثرٍ فافعل» مهما صحت نسبة هذا القول لفقيهٍ أو محدث فإنه يخالف أصول الشريعة، بعد كل ذلك جاءت الأطروحات الأنيقة وسط كومة من التكرار والثرثرة، وأعني بها مثلاً «الموافقات» للإمام الشاطبي، و«غياث الأمم في التياث الظلم» للإمام الجويني، وضع الأول المباح ضمن ضرورة التكيف الدنيوي، بينما يصف الجويني المباح بأنه «الحق في التقلب بالعيش».
يحلل الباحث عبد المجيد الصغير في أطروحته «الفكر الأصولي وإِشكالية السلطة العلمية في الإسلام – قراءة في نشأة علم الأصول ومقاصد الشريعة» هذا الباب، وفي الفصل الثامن، إذ يخصصه بتحليل مركزي المباح في علم أصول الفقه وانتعاش الأبحاث فيه مع تطور على مقاصد الشريعة، يكتب محللاً: «ليس غريباً أن يستهل الشاطبي مراجعته النقدية لإشكالية الأمر والطاعة بتفصيله القول في مفهوم المباح، مفضلاً البداية هكذا بنقد موقف متشدد من الأحكام الشرعية، عرف انتشاراً خاصاً بين الأوساط الصوفية وتسرب كرأي شاذ إلى علم الأصول؛ يلحق المباح بمرتبة المكروه والحرام ويجعله من ثم مطلوب الاجتناب، نازعاً عنه طابع التخيير المتميز به في الخطاب الشرعي».
ما يصحّ على الخطاب الصوفي باعتبار جغرافية الشاطبي حيث يحلل يصح على التيارات الحشوية الفقهية التي تناع المباح باعتباره منطقة ليست محايدة وإنما يجب أن تردم من خلال تضخيم المحرمات وتوسيع الورع من السلوك الفردي إلى تأميمه جماعياً وإلزام المجتمعات بالتحوطات الشخصية، وهذا عدوان على أصالة المباحات الدنيوية التي لم تتركها الشريعة نسياناً وإنما عن قصدٍ لتوسيع حركة الناس ومنحهم الحق في التمتع الدنيوي، تعرض المباح أيضاً للتحكم السلطوي من التيارات السياسية وذلك بغية حكم المجتمع وسوسه بسوط النجاة الأخروية في حال الانضواء ضمن البرامج السياسية وهذه فعلة الحركات الراديكالية الدينية في المجتمعات الإسلامية سواء منها المنتمية لمسميات أهل الحديث، أو الإخوان المسلمين وما تفرع عنها.
وبالعودة إلى أطروحة الصغير فإن: «التشدد في الأحكام التكليفية قد يتخذ أسلوباً آخر في تبرير مشروعية تسلطه، حينما يلجأ إلى الاستنجاد بالسلف والاحتجاج بمواقفهم واختياراتهم الأخلاقية بوصفها سلطة مرجعية، وكنماذج مقننة للسلوك والعمل، عُرف عنها الورع باجتناب وترك المباح ورفض التقلب في العيش كترك الترفه بالمطعم والمشرب والمركب والمسكن وحيث إن الحكايات تضافرت حول زهد السلف في مثل هذا، فقد ترجّح وجوب ترك المباح، من حيث إنهم لم يروا فيه كاعة، فاجتنبوه، فتحقق أن اجتناب المباح هو عين الطاعة».
ميزة مقاصد الشريعة أنها تقوم بتحرير الفقه من أمشاج العاطفة وأغلال النزعة الذاتية، وذلك بغية تحقيق المقصد الكلي للشريعة، وأذكر أثناء دراستي في كلية الشريعة أن قراءة هذا العلم كانت ضمن اجتهادٍ فردي ذلك أن هذا العلم لم يدرج ضمن المناهج الدراسية رغم أهمية جسر أصول الفقه المرتبط أساساً بالمنطق في ترتيب نظرة الفقيه للحكم الشرعي، ولكن قد تكون الأمور تغيرت الآن… الخلاصة أن المباح هو الذي انتصر للمجتمع السعودي، وهو المساحة الحرة، والمنطقة المتاحة، وعلى المسلم دوماً أن يتذكر أن المحرمات في الشريعة قليلة، وأن كل الدنيا التي أمامه هي له، ليتمتع ويعيش ويسعد ويترفّه، فالانتصار للمباح هو انتصار لأصلٍ ومركزٍ في الشريعة الإسلامية، وفي الآية الكريمة نقرأ أصلاً مهماً على المسلمين الإيمان به بدلاً من الوسواس والهلوسة؛ حيث يقول تعالى في سورة الملك: «هُوَ الَذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُشُورُ».