((الواقع الجديد)) الثلاثاء 23 يناير 2018م
فؤاد مطر
لو أن نوايا إيران كانت طيبة بما يكفي تجاه إخواننا اليمنيين بصرف النظر عن تنوعهم وتحزبهم وولاءاتهم، لكانت رداً على الوديعة المليارية الثانية من جانب المملكة العربية السعودية لليمن، وضعت بدورها وديعة مليارية برقم أكثر قليلاً لكي تقول لأهل اليمن المبتلين، كما آخرين بدورها وتدخلاتها، ما معناه إذا كان الملك سلمان بن عبد العزيز وجَّه بوضع وديعة بملياري دولار لكم يا شعب اليمن، فإن المرشد علي خامنئي سيوجه بوضع وديعة بقيمة ملياريْن ونصف المليار دولار. مثل هذا التصرف هو المفترَض، في حال كانت النوايا طيِّبة بما يكفي صدوره عن أهل الحُكْم الإيراني. لكن الذي فاجأنا، كما إخواننا في اليمن، هو أن رد الفعل على هذه المكْرمة السعودية كان إرسال صاروخ باليستي على نجران، من المؤكد أنه إحدى هداياها إلى اليمنيين. ومن الواضح أن الغرض من هذا الفعل الشرير الذي يتكرر هو عدم انشراح الصدر الحوثي بالوديعة المليارية، وبحيث لا يكون حديث الناس عنها، وكيف أنها ستدعم النقد اليمني فلا ينهار، وتتمكن الحكومة اليمنية من إصدار ميزانية الدولة للعام 2018 بقيمة 3.8 مليار دولار، وهي الأُولى للحكومة الشرعية منذ ثلاث سنوات نتيجة الانقلاب ووقوع صنعاء في القبضة الحوثية. كما أنه سيُقوي من عزيمة المواطن اليمني فلا ينهار الاقتصاد العام للدولة المشطورة أمام المتلاعبين بأقداره.
أهمية الوديعة المليارية لليمن أنها تتم في ظروف مالية محسوبة بدقة من جانب القيادة السعودية، فالزمن هو زمن الترشيد الذي أوجب اتخاذ قرارات لإعادة النظر فيما هو من نتاج زمن الطفرة التي أدخل الخفض الصادم في أسعار النفط تعديلات جذرية على أجواء البحبوحة التي نشأت عنها. ولكن مقتضيات الواجب تجاه أوضاع يمكن أن تتصدع، كما الحال في اليمن، تفرض الأخذ بإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
ومثل هذا الأمر حدث من قبل مع لبنان عندما كادت عملته تقترب من شفير الانهيار، وجاءت الوديعة المليارية هي الأُخرى من جانب المملكة تبدد مخاوف، وتشد من العضد اللبناني، لكي يبقى على التماسك الذي يصون وحدته. وكان من شأن التعامل المنزه عن الكيد وكذلك صون اللسان، إلى مراعاة جانب التأدب في التخاطب، أن تحقق الوديعة للبنان ما يتطلع إليه المواطنون، وهو الاستقرار الذي في ظله يأخذ الازدهار طريقه إلى الأسواق والمجتمعات والنمو. لكن مع الأسف لم يحدث المأمول. فقد كان التعامل من جانب أُولي التحزب على أنواعه في لبنان مع معنى الوديعة والنخوة التي ارتبطت بجوهرها، على غير ما تستوجبه الأصول. فالطرف الوادع لم يفعل ذلك من أجل إطراءات تصدر من هنا وهناك، ويكون الإطراء منقوص الصدق والعفوية، وإنما من أجل مساعدة لبنان على أن يبقى متماسكاً ويبني نفسه ضمن الأصول. وما هو أهم من ذلك أن تكون المرجعيات فيه على درجة من الحصافة فلا يقال من الكلام ما هو مسيء، ولا يكون الرد على التحية التي جاءت في شكل وديعة بالإساءة. وإلى ذلك لا يتم استعمال سيئ الكلام على أنه وسيلة ضغط، فالوديعة لم تأتِ بفعل ضغط لكي تتجدد بمثله. لقد جاءت الوديعة كنجدة من جانب أخ يتصف إلى جانب الاقتدار بخاصيات لمصلحة الوطن الصغير مثل الود والخير وتنقية سمائه السياسية من كثرة الشوائب.
ونحن لو استحضرْنا ما قيل من الكلام المسيء في حق المملكة طوال أشهر تلت الوديعة للبنان، لوجدْنا أن جولة كلام سيئ واحدة تكفي لإعادة نظر جذرية في موقف المملكة من لبنان، بما في ذلك ما يخص الوديعة. لكن الحدب بقي في مكانه لدى نفس الملك سلمان بن عبد العزيز ليفاجأ في ضوء ذلك بأن للباليستي الإيراني مشتقات من بينها سيئ الكلام أحياناً والافتراء معظم الأحيان.
وحدها مصر كانت في موضوع الوديعة حريصة على الأصول، مع ملاحظة أن ظروف لبنان عندما أخذت الوديعة المليارية طريقها إلى المصرف المركزي فيه كانت أكثر تعقيداً، وتستوجب منه التصرف بما تقتضيه الأصول وكرم الخُلق. وبينما مصر الدولة كانت دائماً ضمن قاعدة حِفْظ الجميل الآتي من دون طلب أو كثرة إلحاح، فإن لبنان الدولة المختلطة انتهى في تَعامُله مع الوديعة مثل الذين يتقنون الألعاب البهلوانية، فانحسرت الثقة به، وكادت تغادره.
ما نريد قوله فيما الوديعة السعودية حاضرة أمامنا في المشهد اليمني العاصف هو أن اليمن لا يحتاج إلى الباليستي تأتيه صواريخه بسخاء وكأنما هي معونات غذائية وألبسة وأدوية يرميه بها المرشد خامنئي، ويرفدها بخبراء من إيران أو من الضاحية الإيرانية (للعاصمة اللبنانية بيروت)، ويتم تدريب هؤلاء على فنون الإيذاء، وكيف أن الصاروخ الواحد يجب أن يحقق أكبر خسارة. ولكن هذه الصواريخ تتحطم ويرتد الأذى على مورِّديها، كما على مشغِّليها، وبأنواع شتى من الأذى، ومنها على سبيل المثال لا الحصر تلك الانتفاضة النوعية والعفوية التي عمت مناطق كثيرة في إيران، ورسمت في المشهد الإيراني ملامح من الصدمة لم يجد النظام تشخيصاً لها غير القول إن وراءها جماعات مؤيدة للرئيس العراقي الأسبق صدَّام حسين، وهو تشخيص يثير الكثير من الاستغراب، إذ إن الرجل بات في ذمة الله مشنوقاً في مهرجان تصفيته بإشراف بريمر الأميركي وحضور تهليلي من ضيوف عراقيين مختارين ينتمون إلى رموز من الزعماء السياسيين والدينيين الإيرانيي الهوى أبرزهم نوري المالكي رئيس الحكومة العراقية السابق. وواضح أن الغرض من هذا الاتهام «جماعات صدَّامية» هو تذكير الإيرانيين بما فعله صدَّام بإيران خلال حربه مع الخميني، والقول لهم ما معناه إن السد المنيع لعدم تكرار ذلك الفعل هو التمسك بالنظام الذي يقوده المرشد خامنئي وليس الانتفاضة عليه بأمل تغييره. كما أن هذا التصنيف لمن يقف وراء الاضطرابات هو أيضاً رسالة إلى العراقيين بأن يزدادوا ارتباطاً بالثورة الإيرانية لأن زوالها يعني عودة الصدَّامية إلى العراق. وهذه كلها كلمات وتهيؤات لعدم الاعتراف بصوابية ومضامين الهتافات التي أطلقها المتظاهرون، وكيف أن الصاروخ الباليستي يُرسَل بكل عناية إلى الحوثيين في اليمن، ويُرسل إليهم السلاح والمال أيضاً، إنما يكون ذلك على حساب المطالب الملحة لشرائح عريضة من الشعب الإيراني المؤجلة في استمرار، وذلك على أساس لا صوت يجب أن يعلو على صوت التحرش بالمملكة العربية السعودية عن طريق اليمن، ومن دون أن تُتهم إيران بأن الباليستي انطلق من أرض إيرانية.
وفي انتظار أن نسمع ذات يوم أن المرونة بدأت تحل محل الصلَف لدى أهل الحُكْم الإيراني، وأن سفينة تحمل الغذاء والدواء والملابس شبيهة بالحملات الإغاثية المستدامة من جانب الملك سلمان بن عبد العزيز، أفرغت حمولتها في مرفأ يمني، وليس في هذه الحمولة أسلحة وذخائر وقنابل، تبقى إيران على إيذائها للشعب اليمني كما إيذائها للشعب السوري وثلاثة أرباع الشعب اللبناني ناهيك بمعظم الشعب العراقي. والأكرم لها طي صفحة الصَلَف والإيذاء وعدم التباهي بأنها قادرة على إيصال الباليستي إلى أجواء السعودية. وإذا كانت حريصة على شعب اليمن فلتضع وديعة مليارية في المصرف المركزي تزيد عن الوديعة المليارية السعودية بدل استثمار هواية الإيذاء من خلال لعبة الباليستي ومشتقاته. وللإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه القول: «رُبَّ صَلَف أدَّى إلى تَلَف». كما هنالك المثل الشعبي الفارسي «دنيا هميشه بريك قرارنميماند» وترجمته بالعربية «لا تبقى الدنيا على حالة واحدة».