((الواقع الجديد)) الثلاثاء 23 يناير 2018م
حمد الماجد
في مؤتمر حواري في مدينة باكو عاصمة جمهورية أذربيجان دعت إليه مؤخراً الحكومة الأذرية ممثلةً في مشيختها ودار إفتائها، لفت نظري إمام وقسيس لا يكادان يفترقان في المقعد والمأكل والممشى وحتى في استراحات القهوة بين الجلسات. واضح من الإمام أنه عربيّ السِّحنة وصديقه القسيس ذو ملامح أوروبية جليّة، وتعززت الإثارة في العلاقة بين رجلي الدين حين ساقتني الصدفة ليكون مقعدي في مداولات المؤتمر بجوار مقعد رجلي الدين المسلم والمسيحي، دنا منّي الإمام المسلم وعرّفني بصديقه القسيس، فرحّبت بهما وقال لي الإمام المسلم: لديّ مع صديقي القسيس مشروع مشترك في مدينة Fisksatra القريبة من العاصمة السويدية استوكهولم، ونبحث عن داعمين. فظننتُ أنه يقصد مشروعاً إغاثياً مشتركاً أو مشروعاً حوارياً، كالتي تنتشر في الغرب والشرق، أو مشروعاً إنسانياً يلتقي حوله أتباع الملل والنِّحَل.
المثير أن الإمام المسلم تحدث معي عن مشروع مسجد وكنيسة في مكان واحد وأرض واحدة وبديكور خارجي واحد، لا تكاد تميز بينهما إلا بالمسجد الذي يعلوه الهلال بلا منارة والكنيسة التي يتربع على سقفها صليب بلا برج ناقوس، وأكد لي الإمام والقسيس أن المسجد والكنيسة وإن كانا ملتصقين في مبنى واحد بمظهر ديكوري واحد لكنهما منفصلان، فأتباع كل ديانة يمارسون طقوس عبادتهم في مكانين مستقلين غير مختلطين، قلت لهما: ولماذا هذا التصميم المثير للجدل؟ قالا: إن «الغاية هي خلق بيئة متجانسة ومتسامحة بين سكان المدينة الواقعة في ضواحي استوكهولم»، لكنهما أقرّا بأن الفكرة فعلاً مثيرة للجدل عند بعض أتباع الديانتين ومرحَّب بها لدى البعض الآخر.
واضح أن الإمام والقسيس السويديين قد هالهما تصاعد مؤشر اليمين المتطرف عند المسيحيين، وازدياد العمليات الإرهابية التي ارتكبها مسلمون في أوروبا، وهو ما يهدد الاستقرار المجتمعي الأوروبي، فأرادا أن يقتحما مسلكاً «مختلفاً» بإنشاء هذا المقر الديني المشترك، ليثبتا أن العقلاء والمتسامحين في الفئتين قادرون على إثبات أن الأقلية المتطرفة المتشنجة في الفئتين وإن علا ضجيجها لن تهزم الأغلبية المعتدلة المتسامحة ذات الصوت الهادئ الرزين، وفي تقديري أن الموضوع ليس بهذا التبسيط، وأن غاية نشر التسامح لا تبرر وسيلة معقّدة، كهذا المقر الديني المشترك، الذي قد يكون ضرره أكبر من نفعه، ولست متخصصاً حتى أحكم بالتحريم أو التحليل، ولكني أحاول أن أتلمس الأعراض الجانبية التي قد تحرف الغاية النبيلة التي اجتهد الإمام والقسيس لتحقيقها، علماً بأن الإمام السويدي ذكر لي أنه استفتى عدداً من المشايخ وأفتوه بجواز صنيعه.
ولكن المسألة في تقديري لا تتعلق بالحِل أو الحُرمة فقط، بل بتقييم عميق لهذه التجربة الجريئة، واستشراف نتائجها السلبية المحتملة والتي قد تطغى على الإيجابيات، ومن يسبر وقائع التاريخ التي حدثت فيها حالات «التماسّ» بين الديانات في العالم يَخْلُصُ إلى أن هذا «التماسّ الديني» ضرره أكبر من نفعه مهما كانت النيات الحسنة خلفه، وهذا ما جعلني أحثّ عدداً من قيادات الأقليات المسلمة في الغرب على محاولة تجنب تحويل الكنائس المعروضة للبيع إلى مساجد، ليس بسبب الحِلّ والحُرمة، فجوازه مفروغ منه ما دام بتراضي الأطراف كلها، ولكن خشية أن تتحول الكنائس «المتحولة» إلى ألغام قابلة للانفجار مع أجيال قادمة قد لا تفهم مبررات هذا التحول، ولنا في مسجد البابري في الهند عبرة، فقد أُقيم المسجد على أنقاض معبد يؤمن الهندوس بأن معبودهم «راما» قد وُلد فيه، وحدثت بسبب هذا «التماسّ الديني» أحداث طائفية دموية مؤسفة، والعاقل مَن اتّعظ بالتماسّات الدينية التاريخية.