(( الواقع الجديد)) السبت 13 يناير 2018
اميري طاهري
عقب هدوء نيرانها بعد أيام من الاشتعال، لا تزال «الأحداث» التي هزت الداخل الإيراني، في أواخر ديسمبر (كانون الأول) الماضي وأوائل يناير (كانون الثاني) الحالي، تثير كثيراً من التعليقات، والتكهنات، وفي مثل هذه الحالات، المزاعم الكاذبة المضللة.
والسؤال الأول الذي يطرح نفسه: ما التسمية التي ينبغي أن نطلقها على ما حدث؟
إن وصفها بـ«الأحداث» وصف لطيف ومعتدل، كما أن وصفها بـ«الثورة» يحمل قدراً لا بأس به من المبالغة. ولقد بدأت الزمرة الخمينية الحاكمة في إطلاق اسم «الاضطرابات» على ما حدث كما لو كنا نتعامل مع تدافع جماعي همجي في سوق من الأسواق أو ازدحام جماهيري فوضوي كمثل ما نراه في مباريات مصارعة الثيران الإسبانية الشهيرة. وعندما اتضح أن إطلاق وصف «الاضطرابات» على ما جرى في نحو 100 مدينة إيرانية لا يمكن قبوله بأكثر الطرق اعتدالاً، ارتدّت السلطات الخمينية إلى موقفها الاحتياطي المتمثل في إلقاء تبعة ما حدث على «المتآمرين الأجانب»… في كل شيء.
وبالتالي، أنعمت علينا الدعاية الحكومية الإيرانية بمصطلح آخر وهو «المؤامرة» مع دلالات ملونة على الشخصيات التي من المفترض أنها شاركت في الأحداث. ومن بين هؤلاء المتآمرين كان الرئيس الأميركي دونالد ترمب، ووزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون، وجماعة بارزاني في كردستان العراق، ونسيب الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، وابن عم الرئيس الأفغاني أشرف غني، وجاسوس متقاعد لدى الاستخبارات المركزية الأميركية الذي اعتنق النسخة «الخاطئة» من دين الإسلام. وفي غضون أيام، رغم كل شيء، استدعت اللهجة الخمينية الرسمية كثيراً من السخرية والاستهزاء.
كيف تسنى لمثل هذه الزمرة المتباينة من الشخصيات أن تقنع كثيراً من المواطنين الإيرانيين الساخطين بالاندفاع إلى الشوارع للتظاهر والاحتجاج ضد النظام؟ وكيف يمكن لتلك الشرائح الكبيرة من المؤسسة الخمينية أن تعرب عن تعاطفها مع المتظاهرين بدلاً من إغراقهم بأساليب القمع والاعتداء التي اعتاد الملالي استخدامها منذ زمن بعيد؟
كلا، إن توصيف ما جرى بـ«المؤامرة» لا يفيد في شيء هذه المرة.
ومن ثم تحول أقطاب الدعاية الخمينية إلى استخدام مصطلح «الفتنة»، الذي يوفر لهم كثيراً من المزايا بقدر اهتمامهم بالأمر.
وبادئ ذي بدء، فإنه من المصطلحات الدينية التي توحي بالانقسام الكبير الذي يتحدى النسخة الراسخة من التعاليم الدينية والإيمان بواسطة الخطاب المنافس المؤيد بالسيف.
وهكذا، ركن الخطاب الخميني إلى أن المتظاهرين كانوا منشقين يهاجمون الدين الإسلامي مباشرة. لدرجة أن وسائل الإعلام الإيرانية التي يسيطر عليها الأمن «الإسلامي» شرعت في نشر لقطات مرئية وصور مطبوعة تزعم أن المتظاهرين كانوا يحرقون المساجد والحسينيات، وكانت الرسالة المبينة من بين السطور تفيد بأن المتظاهرين الإيرانيين مثل السوريين الذين ثاروا في وجه بشار الأسد بغية تحقيق هدف وحيد: تدمير الأضرحة والمزارات الشيعية.
ومع ذلك، فإن مصطلح «الفتنة» لم يجد أرضاً صلبة تحمله؛ ففي حقيقة الأمر كانت إحدى مميزات الاحتجاجات الإيرانية الأخيرة، وللمرة الأولى في التاريخ الإيراني المعاصر، انعدام وجود النبرة الدينية في أي من الشعارات والخطب التي رفعها أو ألقاها زعماء الاحتجاجات.
وكانت المحاولة الثانية لتشويه صورة «الأحداث» الإيرانية هي وصفها بأنها «احتجاجات اقتصادية». وحاول بعض المسؤولين السابقين في إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما برفقة بعض من جماعات الضغط السياسي الموالية للزمرة الخمينية في الولايات المتحدة، التحايل للزعم بأن «النظام الخميني» في إيران ما زال يحظى بشعبية جارفة ولكنه يواجه السخط الشعبي بسبب العقوبات الاقتصادية الدولية التي جعلت الحياة مستحيلة على أغلب شرائح المواطنين في إيران. وعندما اتضح أن أغلب الشعارات كان سياسي المقصد، فإن هذه المحاولة هي الأخرى أصبحت مستهلكة وفائضة عن الحاجة. وفي كل الأحوال، استند الأمر برمته إلى «سوء قراءة» التقسيم الماركسي للواقع إلى «البنية التحتية الاقتصادية» و«البنية الفوقية السياسية».
ويتفق كثير من الإيرانيين، ومن بينهم شخصيات داخل النظام الحاكم نفسه، ضمنياً، على أن الملالي قد استولوا قبل أربعة عقود على بلد مزدهر إلى درجة ما وحولوه إلى منزل فقير متهالك يعاني فيه ما يربو على خمسة ملايين مواطن من الجوع المزمن، إلى جانب 25 مليوناً آخرين يعيشون في عشوائيات فقيرة للغاية لا تصلح لسكنى البشر. ومع ذلك أيضاً، فإنهم يعلمون أن المشكلات الاقتصادية في البلاد هي نتيجة مباشرة للسياسات الرعناء المتهورة التي يعتمدها النظام الحاكم في الداخل والخارج.
وبالتالي، ما شهدناه كان ثورة سياسية وطنية ضد الوضع الراهن.
ومصطلح «وطنية» لا يعني مشاركة جميع شرائح الشعب الإيراني أو حتى السواد الأعظم منه؛ بل وصفت الثورة بأنها «وطنية» نظراً لأنها ضمت قطاعات من مختلف الطبقات والأعراق والمذاهب الإيرانية. وفي بعض الأماكن، مدينة أصفهان على سبيل المثال، كانت العائلات الثرية تخرج في مسيرات مع أفقر سكان المدينة ومع أبناء الطبقة المتوسطة والطبقة تحت المتوسطة في مظاهرة واحدة. وفي مدينة آراك الصناعية، خرج العمال مع أرباب الأعمال كتفاً بكتف في المظاهرات للإعراب عن استيائهم البالغ من «النظام الخميني» في البلاد.
كما عصفت الثورة أيضاً بالفجوة بين الأجيال، حيث ضمت أناساً من جميع الشرائح العمرية في المجتمع الإيراني. ومن المؤكد أن أغلب المتظاهرين كانوا من الشباب، وأكثر من 90 في المائة من الثلاثة آلاف الذين اعتقلتهم قوات الأمن «الإسلامي» كانوا دون سن الثلاثين. ولكن مَن بوسعه أن ينسى المشاهد التي أظهرت الرجال والنساء المسنين الذين قادوا المسيرات في مدن مشهد، وتبريز، وشيراز، وكرمان؟
كما تقاطعت الثورة الإيرانية الوطنية مع الفجوة بين الجنسين؛ حيث جمعت كثيراً من الرجال والنساء جنباً إلى جنب. وفي كثير من الأماكن، وحتى في البلدات الصغيرة، تزعمت المرأة الإيرانية الاحتجاجات، وتعمدت النساء إحياء ذكرى المناضلة الشيوعية الإسبانية الراحلة «لاباسيوناريا» من خلال خطبهن النارية الساخنة خلال الاحتجاجات.
وفي حين أن الهيئة الخمينية تضم بضعة آلاف من رجال الدين، إلا أنها، وبكل تأكيد، لا تعبر أو تمثل جميع أطياف رجال المذهب الشيعي، وهذا هو السبب في أن كثيراً من الملالي وطلاب العلوم الدينية انضموا إلى الاحتجاجات ضد النظام؛ الأمر الذي أكد الشخصية الوطنية للثورة الأخيرة. ومن المثير للاهتمام، أن أياً من كبار رجال المذهب الشيعي أو ملالي المستوى المتوسط في مدن قُم ومشهد والنجف قد خرج لتأييد النظام الحاكم وإدانة الثورة الوطنية. بل كان على النظام أن يحاول العثور على مَن يدافع عنه من بين بضع مئات من الملالي المدرجين على كشوف الرواتب الحكومية.
وتوصف الثورة الإيرانية بأنها وطنية لسبب آخر: لم يلعب أي حزب سياسي أو جماعة سياسية أو حتى شخصية سياسية معروفة أي دور يُذكر في الثورة الأخيرة. وأغلب الأحزاب الإيرانية، بما في ذلك الأحزاب كافة التي أيدت الخميني في 1978 – 1979، قد انضمت إلى الثورة الأخيرة، ولو من الناحية الشفهية على الأقل، تماماً كما فعلت قائمة مثيرة للإعجاب من كبار المسؤولين السابقين والمدافعين على «النظام الخميني». ومن بين أعضاء المجلس الإسلامي البالغين 290 عضواً، صدر عن بعضهم (نحو 60 عضواً) بعض الهتافات المؤيدة للثورة الشعبية. ومما يثير الاهتمام أيضاً، تردد النخبة العسكرية في البلاد، لا سيما في الجيش النظامي الإيراني، في الوقوف بوجه الثورة الوطنية، خلال مراحلها الأولى على أقل تقدير.
إن ما حدث لم يسبق له مثيل في تاريخ إيران المعاصر.
لقد كانت ثورة وطنية حقيقية ضد النظام القائم. وهي لم تعرض بديلاً واضحاً للنظام، ولكنها ساعدت في تنقية الأجواء من خلال كشف المزاعم الواهية لـ«النظام الخميني» بأنه لا يُقهر. وحتى قبل عام مضى، كان عدد قليل يقر بأن «النظام الخميني» يمكن الإطاحة به. أما الآن، فقد أصبح كثيرون يعترفون بذلك، بمن في ذلك جماعات الضغط السياسي المؤيدة للنظام الإيراني في الخارج.
في عام 1989، صرح علي خامنئي بالمقولة التالية أمام جلسة مجلس الخبراء التي سرعان ما أيدت توليه منصب «المرشد الأعلى»: «لا بد أن نبكي بدموع الدم على الأمة الإسلامية إذا ما استحققت بجدارة أن أكون زعيمها».
ولا أعتقد أن البكاء بدموع الدم هو الخيار الوحيد. فمن الخيارات الأكثر واقعية هو إغلاق فصل «الخمينية»، والإرشادية العليا للبلاد، والمفاهيم اللاإنسانية ذات الصلة، من خلال السماح للأمة الإيرانية بإعادة صياغة ذاتها وحياتها، ولكن بطريقة أكثر عقلانية.
كانت الثورة الوطنية الإيرانية تتعلق، أكثر ما تتعلق، بالتغيير، الذي ربما يتأخر ولكنه لن يموت.