الأحد , 22 ديسمبر 2024
fahadalshaqyran

«الدولة المستحيلة» وتحديات الحداثة

((الواقع الجديد)) الخميس 11  يناير 2018 

فهد الشقيران

مع تصاعد المظاهرات في إيران، وضمور المد الداعشي نسبياً، واحتمالات عودة «القاعدة» مجدداً، تعود أسئلة الدولة الدينية المتخيلة وعلاقاتها بالأخلاق والحداثة. لا يمكن نجاة الدولة من الآثار الثيوقراطية بمجرد وجود مؤسسات فاعلة كما يدعي بعض المعتبرين لإيران دولة حديثة بسبب وجود مجالس تحكيم دستورية، وتشخيص مصالح النظام، حتى تنظيم داعش، ومناطق حكم تنظيم القاعدة لديها تنظيماتها ودواوينها، ولكن الرهان على مستوى مدنية الدولة وجذور أسسها القانونية الحديثة، وقدرتها على وضع «سستام» يمكنه البناء بمجموع الأفراد على كل المستويات انطلاقاً من تشارك الواقع والقدرة على تعزيز أسس التعاقد بين الفئات وتحرير الشؤون الدنيوية من الشعارات المتصارع عليها، وعلى رأسها الصراع حول الحقائق، لا يمكن فصل شكل الدولة عن القيم التي تتبانها والآيديولوجيا المستندة إليها، والروح التي تدب في مؤسساتها، من هنا الاختلاف بين الدولة المدنية الممكنة و«الدولة المستحيلة».
ومفهوم «الدولة المستحيلة: الإسلام، والسياسة، وأزمة القيم الحداثية» عنوان أطروحة للأستاذ بجامعة كولومبيا الأكاديمي الفلسطيني الأميركي وائل حلاق، الذي طبع عام 2012. الكتاب أثار الجدل، وذلك لما يمارسه من اختلاف في قراءة شكل الدولة وعلاقاتها بالأخلاق والحداثة والعلمانية، به يحاول تحديد «أثر الغرب»، طارحاً انتقاده لتقديس الأثر الغربي، مستلهماً ومستدلاً بما قرأه لأستاذ يمتنّ له هو طلال أسد الذي ينتقد «العلمانية» تجاوزاً لها وتمرداً عليها ضمن قيم أشمل من تاريخيتها كما في كتابه الشهير «تشكيلات العلمانية». حلاق أعماله منذ التسعينات تتناول «الفقه في الإسلام الكلاسيكي ونشأة الفقه الإسلامي، والسلطة المذهبية، وتاريخ النظرية الفقهية»، ولديه كتاب سيصدر قريباً عن جامعة كولومبيا أيضاً حول «الاستشراق»، فهو من المتمكنين في هذا المجال. و«الدولة المستحيلة» يكتسب راهنيته في ظلّ مقاومة الإسلام السياسي ضد نقاده من العلمانيين والمنضوين ضمن التجربة الغربية حول مفاهيم الحق والدولة والقانون والمؤسسة والفرد، ولهذا جانب لا يستهان به من فصول الكتاب.
يأخذ حلاق في كتابه الموضوع السياسي الإسلامي وشكل الفقه أساساً لفحص إمكانات تحقيق الدولة الإسلامية المستحيلة باعتبارها تحاول البحث عن التأصيل ضمن الممكن التاريخي، فالفقه ليس هو القانون رغم أن الفقه كما يقول: «يتصف بالتعددية القانونية، ليس لأنه يعترف بالأعراف المحلية ويأخذها بالاعتبار ويحملها محمل الجد فحسب، بل أيضاً لأنه يطرح مجموعة من الآراء على أساس منظومة واحدة من الحقائق نفسها» يضيف كاتباً: «إنه إذا كان القانون، بوصفه ممثلاً للإرادة السيادية، في كلِّ مكان، فإن توزيع القوة القانونية لا يتقاطع مع (كل خطة حياة فردية) فحسب بل أيضاً مع كل الوحدات التي تكوِّن الدولة. وإذا كان القانون، معرَّفاً كنظامٍ معياري، متوغلاً في هذه الوحدات بصورة رأسية وأفقية، فمن الصواب استنطاق العلاقة بين هذا النظام المعياري والمؤسسات التي تجسده، ولا سيما تلك التي تتخصص في فض الخصومات وتفعيل مبادئها الخاصة».
حلاق يتجاوز الطرح الفكري الحداثي التقليدي حول الغرب، وهو نقد يبدو مفاجئاً لأول وهلة بين طيّات الكتاب، لكن الباحث محمد حصحاص قدم دراسة مهمة تعالج بعض الالتباس الذي تقدمه نظرية الدولة المستحيلة، فهو يشير إلى أن «حلاق قدم نقداً قاسياً للحداثة الغربية ولمفهوم الدولة الحديثة، مستدلاً في طرحه – إمّا اختلافاً أو اتفاقاً – بكبار فلاسفة الغرب في العصر الحديث، على اختلاف مرجعياتهم ومذاهبهم الفلسفية والدينية، أمثال إيمانويل كانط، وفريدريك هيغل، وفريديريك نيتشه، وماكس فيبر، وكارل شميت، وثيودور أدورنو، وميشال فوكو، وجون رولز، وبيير بورديو، وتشارلز لارمور، وجون كراي، ومايكل وولتزر، وتشارلز تايلر. يلخّص الكاتب نقده للحداثة وتمظهرها في مفهوم الدولة الحديثة».
حلاق لا يعتبر أطروحته تأتي ضمن طرح بديل موازٍ لعلمانية مشروحة جديدة، على غرار الاقتراحات النظرية التي يطرحها بعض المفكرين العرب من علي عبد الرازق إلى جورج طرابيشي، بل يخوض مقاربة أخرى ضمن منهاجٍ مخاتل، ففي حوارٍ أجراه معه الباحث والمترجم المصري كريم محمد من جزأين قال: «إنني أختلف بعمق مع الأطروحة الأساسية لعلي عبد الرازق حول الحوكمة الإسلامية السياسية. ومن ثمّ، ما مِن شيء في كتاب الدولة المُستحيلة يقرّ أفكار عبد الرازق ويصدّق عليها إذا ما قرئ الكتاب بشكل صحيح. وإذ كانت الحكومة والسياسة (بالمعنى العام للمصطلحين) أدوات لتنظيم المجتمع في بنية معقّدة، فقد قدّمَ الإسلام إذن، منذ بدايته، نهجاً متيناً للحوكمة، لكنّه نهجٌ أكثر مرونة وتغيراً مما رأينا في العقدين أو العقود الثلاثة الأخيرة في الغرب (وفي جميع أنحاء العالم مؤخراً). كان عبد الرازق مخطئاً في حجاجه بأنّ الإسلام لم يقدّم نموذجاً للسياسة وللحوكمة». ولهذا توسع آخر يمكن اكتشاف مبرراته في ثنايا الكتاب.
يعتبر حلاق أن مشروعه على مدى العقدين الماضيين كان منصباً على التركيز على عدم فصل الإيتيكي عن أي مجال من مجالات الحياة، وينطلق في نقده للغرب مما عرّفه الفلاسفة ببنية الفكر الغربية للهيمنة، ولكن النقد لا يتجه صوب الانضواء الآيديولوجي مع النظرية الرجعية حول الغرب بل يحذّر: «بأن علينا الكف عن الوهم بأننا يمكننا الوقوف خارج الحداثة في نقدها، فليس هناك مساحة نقدية قائمة في العالم اليوم تقع خارج محيط الحداثة». إنها انتقادات للغرب بأدواته بغية الظفر بمقاربة «التجاوز» المفهوم الأساسي للحداثة البعدية النقدية المنصفة للحضارات الأخرى والكافّة عن تبخيسها، ولكن كل ذلك ينطلق من موجات هي أثر حجر الحداثة الأول الذي حرّك إمكانات النقد واحتمالاته.
في كتابه يقول حلاق: «القانون في الإسلام ظاهرة اجتماعية في الأساس وليست سياسية. فهو مرتبطٌ بالمجتمع وليس بالدولة، بصرف النظر عن تعريف الدولة».
إنها إشكالية كبرى، لن تحلها أطروحة، ولكن ما قدمه المؤلف إسهام مهم في ظل تصاعد الحديث حول المتخيل من «دول الإسلام» الحقة في مجاميع الأصوليات وأذرعها العديدة.

 

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.