((الواقع الجديد)) الجمعة 5 يناير 2018
صالح القلاب
من غير المستبعد أن تتحول الانتفاضة الإيرانية، التي هي انتفاضة جوع ومسغبة وغلاء وحرمان، إلى ثورة لإطاحة هذا النظام الغريب العجيب، إنْ على المدى القريب أو على المدى البعيد. والمعروف أن هذا البلد قد شهد، خلال ستين عاماً ويزيد، قبل هذه الانتفاضة الحالية التي لا تزال مفتوحة على شتى الاحتمالات، في بدايات خمسينات القرن الماضي ثورة محمد مصدق غير الانقلابية وغير العسكرية التي كان على رأس أهدافها تأميم شركة النفط الإنغلو – إيرانية، وشهد بعد ذلك انتفاضة فبراير (شباط) عام 1979 التي اختطفها «المعممون»، وعلى رأسهم روح الله الخميني من تنظيمات حركات التحرير الوطنية بقيادة حركة «المقاومة الإيرانية» التي كان زعيمها وقائدها ورمزها مسعود رجوي، الذي لا تزال تثار حول أسباب غيابه غير المعروفة كل هذه السنوات الطويلة تساؤلات كثيرة.
كانت حركة مصدق، ومن كان معه، حركة مدنية قادت البلاد باسم الجبهة السياسية (جبهة مليِّ)، التي كان من رموزها حسين فاطمي، ومحمد زراك زاده، وكريم سنجابي، وعلي شاكان، حتى 19 أغسطس (آب) عام 1953 حيث نفذت المخابرات المركزية الأميركية (C.I.A)، ومعها المخابرات البريطانية، انقلاباً عسكرياً على هذا المصلح الكبير وعلى ثورته، أطلق عليه أصحابه بالفارسية اسم (28 مرداد) قاده الجنرال فضل الله زاهدي، وذلك مع أن القائد الفعلي لذلك الانقلاب الذي أعطي اسماً سرياًّ «أجاكس» هو الجنرال الأميركي كرميت روزفلت.
والغريب أنَّ المخابرات الأميركية، قامت بافتعال مظاهرات معادية لرئيس الوزراء الأسبق محمد مصدق وحركته أو ثورته الوطنية، تم توظيف أعدادٍ كثيرة من «الزعران» لها أطلقت خلالها هتافات رخيصة، وهذا هو ما حصل الآن عندما لجأت حكومة الولي الفقيه إلى الأسلوب ذاته، وأطلقت مظاهرة بائسة وفاشلة في طهران مضادة لهذه الانتفاضة الحالية التي عمت 60 مدينة وبلدة، والتي قد تكون عفوية في بداياتها، لكن المؤكد أنها ستتحول إلى ثورة فعلية، منظمة وموجهة، خلال فترة لاحقة.
ولعل ما أثار انتباه العديد من المعنيين المطلعين أن شعارات هذه الانتفاضة، التي ربما اختلط ما هو عفوي فيها بما هو منظم، هي بصورة عامة شعارات انتفاضة عام 1979 نفسها التي اختطفها «المعممون» أتباع روح الله الخميني من الحركة الوطنية الإيرانية بقيادة مسعود رجوي، التي كان من رموزها محمود الطالقاني ورجال دين آخرون غيبتهم الاغتيالات والسجون، وانتهى العديد منهم إلى حياة المنافي البعيدة.
وهذا يعني أن هذه الانتفاضة (الثورة) قد اختلط فيها الفعل المُنظَّم بالعفوي، فبعض هذه الشعارات التي ترددت في 60 مدينة من مدن إيران هي الشعارات نفسها التي رددتها تجمعات ومظاهرات الحركة الإصلاحية التي أسسها عملياًّ رئيس الوزراء الأسبق مير حسين موسوي خامنه الذي لا يزال قيد الإقامة المنزلية الإجبارية منذ عام 2009 وحتى الآن، ومعه مهدي كروبي الذي يعد من المحسوبين على ما يسمى «الإسلام اليساري» الذي يقال إن هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي ينتميان أيضاً إليه.
وهنا فإن ما يدل على ارتباك الذين يحكمون في طهران، وعلى رأسهم «مرشد الثورة» علي خامنئي ومعه جنرالات الحرس الثوري، أنهم وصفوا هذه المظاهرات، التي عمت ليس بعض وإنما كل المدن الإيرانية، بأنها «مخالفة للقوانين»، وذلك لتبرير قمعها والبطش بالمشاركين فيها، وقد نسي هؤلاء أو تناسوا أن هذه القوانين التي يتحدثون عنها هي قوانينهم هم، وأن عتاة القتلة والسفاحين هم من وضعها، ومن بينهم صادق خلخالي والعديد من الذين تناوبوا على قيادة جهاز «اطلاعات» الذي أعْطى لهذه المنطقة كلها، وليس لإيران فقط، هذا «الطرزان» المتنقل بين العراق وشمال العراق وسوريا واليمن… ولبنان أيضاً، قاسم سليماني.
كانت بداية انتفاضة عام 1979 قبل اختطافها من قبل «المعممين» الخمينيين، كأمثال صادق خلخالي وغيره، كهذه البداية التي ليس هناك أدنى شك في أنها ستنتصر على كل هذا القمع الهمجي الأعمى، وستتحول إلى ثورة شعبية شاملة، ولعل ما يعزز هذه القناعة هو أنَّ مواجهة هذا النظام، الشمولي والاستبدادي والأكثر تخلفاً ورجعية في الكرة الأرضية كلها، لم تعد تقتصر على بعض الأقليات القومية كالعرب والبلوش والأكراد وبعض الآذاريين فالفرس، الذين لم تعد أكثريتهم تعتبر أن نظام خامنئي وحسن روحاني والجعفري وقاسم سليماني هو نظامهم.. باتوا ينشدون التغيير بكل الأساليب والطرق، وحتى وإن اقتضى الأمر اللجوء إلى الثورة المسلحة والعودة للحكم الشاهنشاهي، ولكن بالوضع الذي كان عليه هذا الحكم في عهد حكومة محمد مصدق الوطنية المعروفة.
ثم وإن ما يعزز تحول هذه الانتفاضة، المباركة فعلاً، إلى ثورة وأنَّ هذا النظام القمعي زائل لا محالة، إنْ قريباً وإنْ بعيداً، هو أن صيحات الذين تحدوا البطش وتظاهروا في أكثر من 60 مدينة وبلدة إيرانية كلها كانت ولا تزال تطالب، بالإضافة إلى الخبز والكرامة، بعدم تبديد أموال الشعب الإيراني، الذي أصبحت غالبيته جائعة فعلاً، على المغامرات التمددية والتوسعية في العراق وفي سوريا ولبنان واليمن وعلى الحوثيين و«حزب الله» وعلى بشار الأسد وهادي العامري و«الحشد الشعبي» وعلى بعض أكراد السليمانية في كردستان العراق.
إن هذه المظاهرات التي عمت المدن الإيرانية كلها من دون استثناء هي ليست نزوة عابرة ولا هي بتخطيط خارجي تقوم بالدور الأساسي فيه الولايات المتحدة الأميركية، كما يدعي الملالي، فكيل الشعب الإيراني قد طفح بالفعل، وسبب كل هذا هو الذي بات يعانيه هذا الشعب العظيم فعلاً، الذي لا يمكن لأي كان أن ينكر دوره الطليعي في المسيرة الحضارية التاريخية، هو أولاً الفساد الداخلي الذي تجاوز كل الحدود، وهو ثانياً هذا التمدد الخارجي والتدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة، ومن بينها العديد من الدول العربية، وهو بالتالي إنفاق أموال وإمكانات شعب إيران على نزوات خارجية، وعلى تنظيمات عراقية ويمنية وسورية ولبنانية كلها من المرتزقة والقتلة ومن الشراذم الإرهابية.
ولذلك وحتى تأخذ انتفاضة الشعب الإيراني، بكل قواه وبكل أقلياته القومية والمذهبية، أبعادها وتنتقل من مرحلة الانتفاضة إلى مرحلة الثورة، ثم إلى مرحلة الدولة، فإنه لا بد من أن يكون هناك تفاهم وتنسيق بين واجهة هذه الانتفاضة وقيادتها، وبين الحركات والتنظيمات المسلحة التي كانت قد لجأت إلى العمل العسكري مبكراً، إنْ في الأحواز (عربستان) وإنْ في كرمنشاه وكردستان الإيرانية، وإنْ في بعض المناطق التي أكثريتها من الآذاريين، وأيضاً في مناطق البلوش على الحدود الباكستانية. إنَّ هذه مسألة في غاية الأهمية وعلى الجميع الانضواء في إطار عريض وواسع واحد، ثم إنَّ على الجميع الالتزام بأن الأولوية الآن هي للأهم الذي هو إزاحة وإزالة هذا النظام القمعي الاستبدادي، واستبدال نظام يستوعب كل الإيرانيين به… وعلى أساس المساواة والحريات العامة.
وأيضاً في النهاية، فإنه على القائمين على الحكم في طهران أن يدركوا أن نظامهم بات بحكم الزائل لا محالة، فكل هذا التمدد الاحتلالي في العديد من دول المنطقة قد استنزف إيران اقتصادياً ومالياً بالفعل، وعلى حساب لقمة عيش الإيرانيين وأقلام ودفاتر أطفالهم، وهذا معناه أن هذه الثورة منتصرة لا محالة، وأن البطش البدائي لن يزيد هذا الشعب بكل فئاته وقومياته ومذاهبه إلا إصراراً على التغيير والتخلص من هذا النظام البدائي الاستبدادي.
وهكذا فإن ما كان يجب أن يأخذه هؤلاء «المعممون» بعين الاعتبار قبل أن «يفاخروا» بالسيطرة على أربع عواصم عربية، هو أنَّ نهاية الاتحاد السوفياتي كانت مأساوية وكارثية عندما تجاهل كل تجارب التاريخ، وبادر إلى غزو أفغانستان، واحتلالها عسكرياً وبالحديد والنار، وهذا هو ما تفعله إيران الآن بتمددها الاحتلالي في العراق وسوريا ولبنان واليمن… والواضح أن الجالسين على كراسي الحكم في طهران لا يعرفون «أن السعيد من اتعظ بغيره وأن الشقي من اتعظ بنفسه»!!