الأحد , 17 نوفمبر 2024
adeldarwish

المعرفة إلى أين؟… لست أدري

((الواقع الجديد)) الاحد 31 ديسمبر 2017 

عادل درويش

دراما الخيال العلمي «الدكتور هو» في «بي بي سي» لا تزال رائجة لـ54 عاماً، بين الصغار والكبار، والشباب، والشيوخ الذين كانوا مراهقين عند أول بث في نوفمبر (تشرين الثاني) 1963.
انقلاب أحدثته «بي بي سي» في «الدكتور هو» يثير الامتعاض على مستويات ثقافية وبين المعلقين، والأكاديميين في مجال السيكولوجيا الاجتماعية.
«هو» ليس اسم الضمير مثل هي وهم، بل السؤال بالإنجليزية «who» أي «مَن» وبلا علامة استفهام.
وكان المقصود من الحلقة الأولى الغموض عن أصل بطل الدراما.
«جئت لا أعلم من أين لكني أتيت»، بيت ربما حمل بذرة الكيان الوجودي كطاقة ذهنية خارقة – تتخذ شكل إنسان، من ثمرة وجدان إيليا أبو ماضي (1889 – 1957) في قصيدته «لست أدري»، سبق تجسد «الدكتور هو» على شاشة «بي بي سي» بنصف قرن.
وككل الأيقونات الأدبية والفنية كالكونت داركيولا، والدكتور فرانكنشتاين، وزوار الفضاء، فلدراما «الدكتور» قاموسها المعلوماتي الذي يعرفه المتفرجون.
الدكتور ينتمي إلى سلالة Time Lords، شيوخ أو ملاك إقطاعيات «الزمن»؛ يسافرون، لا مسافات جغرافية بل عبر العصور لأنهم «يمتلكون الزمن»، جاءوا من خارج المجموعة الشمسية.
فكرة المسافر عبر الزمن من الحاضر إلى الماضي أو المستقبل، أصلها رواية آلة الزمن (نشرت عام 1895) لكاتب الخيال العلمي الإنجليزي هربرت جورج ولز (1866 – 1946)، وتنقل الزمن في رواياته وسيلة دائمة لتجديد المعرفة.
ففي بحثي المعلوماتي لكتابة هذا العمود، أعدت قراءة قصيدة أبو ماضي «لست أدري» فوجدت معاني جديدة بين رموز أبياتها تتجاوز دراستي الأولى لها في جامعة لندن عام 1962، وعدستي اليوم تلونها خبرة الحياة، وخمسة عقود من مشاهدة «الدكتور هو».
غموض يحيط بالإنسان في بحثه عن معنى الوجود، ودوره في سنوات حياته، في إطار ما يعيه من الزمن الذي يدور ككرة كاملة مفرغة.
زمن لا أول ولا نهاية له بأحد تفسيرات النظرية النسبية لألبرت آينشتاين (1879 – 1955) في أبيات أبو ماضي «أجديد أم قديم أنا في هذا الوجود … أأنا السائر في الدرب أم الدرب يسير … أم كلانا واقف والدهر يجري».
دراما «الدكتور هو» ليست مسلسلاً درامياً تقليدياً، فإما الحلقة قصة كاملة بحبكة وبداية ونهاية، أو قصة مقسمة لحلقتين أو أكثر، تنتهي بانتصار الخير على الشر، ويتطور تعريف كليهما وفق التغير الاجتماعي الذي يبدو ثورياً، مقارنة بالعقلية المحافظة التي سادت المجتمع حتى سبعينات القرن الماضي.
سافر الدكتور عبر القرون في 840 حلقة، لتحقق الرقم القياسي كأطول دراما مستمرة للخيال العلمي في أي مكان في العالم.
صاغ سيناريوهات الحلقات 98 كاتباً بينهم ثماني سيدات.
التزم معظمهم ببناء الشخصية والأبعاد الدرامية، والخلفيات المعرفية لبنيان خيال علمي يتصور تطوراً مستقبلياً لنظريات الفيزياء والرياضيات المعروفة لتلاميذ المدارس. أسس وأدوات دراما وضعها الأسترالي أنطوني كوربون (1927 – 1977) كاتب سيناريو المجموعة الأولى المكونة من أربع حلقات، أولها «طفل من خارج كوكب الأرض».
في السنوات الأخيرة، تداخلت موضة «التصحيح السياسي»، (وفي جوهره رقابة على الآداب والفنون واللغة)، في تركيبة السيناريو والشخصيات والممثلين مع مسار الدراما «كمرآة للطبيعة البشرية» في وصف ويليام شكسبير، بل تتناقض مع الطبيعة البشرية والحقائق التاريخية.
وتجاهلت «بي بي سي» اعتراض المتخصصين في الدراما والتاريخ بعد أن قذفت حلقات القرن الحالي «الدكتور» إلى زمن أحداث تاريخية معروفة لدى المشاهد. فقد سافر من الحاضر إلى الحربين العالميتين، وحضرة الملكة فيكتوريا (1819 – 1901) في القرن التاسع عشر، أو عهد الملكة إليزابيث الأولى (تولت العرش عام 1533 حتى وفاتها في 1603).
في حلقة الانتقال إلى العصر الإليزابيثي لعبت دور مساعدة الدكتور ممثلة سوداء، يقع شكسبير في غرامها.
في سجلات القرن 16 المدنية لا يوجد سوى 26 من السود، بينهم ثلاث نساء كلهن متزوجات، فشبه مستحيل أن يصادف أشهر مسرحيي العصر في إنجلترا فاتنة سوداء (لم توجد ممثلات وقتها، ولعب الصبية أدوار النساء) فيشدو لها قصيدته الغزلية المشهورة «أأقارن جمالك بيوم صيف ساطع…» التي كتبت لشقراء.
لعب شخصية الدكتور على مدى 64 عاماً اثنا عشر ممثلاً، بعضهم برع في أدوار مسرحية أيقونية كـ«هاملت».
تتغير شخصية الدكتور بحيلة خيال علمي درامية باستنزاف الحيوية من الوعاء (الجسم الإنساني) الذي يحتوي الدكتور كطاقة ذهنية وجدانية خارقة، تبحث عن وعاء جديد.
وأتذكر أبيات أبو ماضي «أتراني كنت محواً أم تراني كنت شيئاً … أيصير الوقت في الأرماس محواً؟»، وهنا تنتقل الطاقة إلى جسم آخر ويظهر الدكتور نفسه لكن في شكل إنسان جديد ليس يدري كيف سيبدو «إن أكن أبعث بعد الموت جثماناً وعقلاً … أترى أبعث بعضاً أم ترى أبعث كلاً … أترى أبعث طفلاً أم ترى أبعث كهلاً»؟
اثنا عشر «دكتوراً» أعيدوا كوجدان في جسم رجل، فهكذا صيغ العمل الدرامي ليتقبله العقل حتى هذا الأسبوع، عندما قررت إدارة «بي بي سي» أن يتجسد الدكتور الثالث عشر امرأة.
القرار تتويج لموجة مبالغ فيها تؤججها الحركة الأنثوية السياسية لاستغلال اتهامات التحرش الجنسي لتقوية الآيديولوجيا النسوية مع سيطرة الفكر اليساري المتطرف اجتماعياً وثقافياً على «بي بي سي».
فبدلاً من صياغة دراما مخصصة لبطولة نسائية، تفسد الآيديولوجيا عملاً فنياً اعتبر أيقونة الفن التلفزيوني والخيال العلمي لستة عقود.
حذر جورج أورويل (1903 – 1950) من أن هدم المجتمعات يبدأ بتشويه ثقافتها عبر تزييف التاريخ لتلائم أحداث الماضي آيديولوجيا الحاضر، مما ذكرني بندوة عن أدباء القرن التاسع عشر في جامعة طهران «الإسلامية» عام 1980. استهلك جدل مقدمي الندوة 50 دقيقة لتصنيف أي من الأدباء «مسلم» بالتعريف الخميني وأيهم زنديق، ولم تكفِ الدقائق العشر الباقية لمناقشة عمل واحد.
ظاهرة طهران 1980، تنتشر اليوم في عالم يحطم تماثيل صناع الحضارة، ويعيد تفصيل الأعمال الأدبية والفنية وفصول التاريخ على مقاس آيديولوجيا يسارية متطرفة تسيطر على منابر الثقافة كما رأيناها في «بي بي سي» 2017، أو يمينية رجعية سبقت ظهور مصابيح الإنارة في الدور والعقول، كما نرى في إعادة صياغة للثقافة في بلدان كمصر عاد مشهدها الاجتماعي إلى ما قبل الحملة الفرنسية، والثمن الذي ستدفعه البشرية سيكون أكثر فداحة مما شهدناه في 2017.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.