الأحد , 22 ديسمبر 2024
noahsmith1

خبراء الاقتصاد وفقدان المصداقية

((الواقع الجديد)) الثلاثاء 26 ديسمبر 2017 

نوح سميث

تدار المجتمعات من خلال الثقة، ويظهر ذلك جليا في المجتمعات المعقدة المعتمدة على العلم الحديث أكثر منه في القبائل البدائية المنعزلة. فمثلا عندما تقود سيارتك للسير بها فوق جسر، فأنت على ثقتك بأن المهندس الذي صمّمه قد اعتمد على قواعد علمية ثابتة. وعندما تتناول مضاداً حيوياً، فأنت تثق بالطبيب الذي وصف الدواء وفي أن لديه أسبابه التي دعته لوصف هذا الدواء دون غيره، وهنا ملايين الأشياء التي تجعلنا نثق بخبرات غير مرئية لأشخاص لم نقابلهم من قبل.
العلم أيضا يعتمد على الثقة إلى حد كبير، ولذلك فإن الأطباء يستخدمون القيمة المقبولة لكتلة الإلكترون، أو ما يعرف بـ«ثابت بلانك»، في حساباتهم من دون الحاجة إلى تكرار التجربة مرة أخرى للتأكد من قيم تلك الحسابات بأنفسهم. ويثق الباحثون في مجال الدواء بالبنية الجزيئية التي يقرأون عنها في أبحاث الكيمياء. ولذلك فإن لم يثق العلماء ببعضهم بعضاً فلن يتقدم العلم مطلقاً.
ولأن الثقة بالعلماء أمر بالغ الأهمية للمجتمع المعقد، فإن إحدى أكثر العبارات المخيفة التي سمعتها تقول: «لقد كذب العلماء عليك». وهذا هو السبب الذي جعل من نظرية المؤامرة شيئاً مرعباً. فالنظريات التي تقول إن الهبوط على سطح القمر كان زائفاً، أو أن اعتداءات 11 سبتمبر (أيلول) كانت مؤامرة داخلية حاكتها الحكومة الأميركية، كلها أمور تنذر بالخطر، لأنها تضرب في صميم المادة، أو الصمغ الذي يعمل على تماسك المجتمع الحديث وتمنعه من السقوط.
ولحسن الحظ، فإن الحالات الحقيقية التي حدثت فيها مؤامرات تعد ضئيلة للغاية. ففي علوم الاجتماع، حيث اليقين أقل بكثير مقارنة بغيره من المجالات، فإنه من السهل كثيراً للعلماء الزعم بأنهم على ثقة أكبر مما هم عليه في الواقع. ولذلك فإن المزاعم المكررة بشأن عدم الأمانة الأكاديمية والمؤامرة تعمد إلى التركيز على علمي الاقتصاد والاجتماع.
على سبيل المثال، فقد مهّد إيريك وينستن، المدير الإداري في مشروع «ثائيل كابيتال» الاستثماري، مؤخراً لتوجيه اتهامات بعدم الأمانة إلى خبراء الاقتصاد في عدد من الموضوعات، منها التجارة والهجرة وسندات الرهن العقاري. وانتشرت كلماته عبر «تويتر» بسرعة كبيرة لتبين مدى خطورة إثارة مثل هذه الاتهامات وما يمكن أن ينتج عنها.
لكن هل وينستن على حق فيما قال؟ هل يراوغ خبراء الاقتصاد وعصاباتهم الاحتكارية في تعاملهم مع الناس؟ في الحقيقة، في بعض هذه القضايا، فإن تحذيرات وينستن مبالغ فيها.
على سبيل المثال، فيما يخص الهجرة، لا يوجد هناك حتى ما يمكن اعتباره إجماعاً من الخبراء. ففي معهدي ديفيد كارد التابع لجامعة كاليفورنيا، وجورج بورجاس التابع لجامعة هارفارد الكبيرين الذين يجريان أبحاثاً دقيقة عن الهجرة، فإنهما يقفان على النقيض من تلك القضية. وتحليل معهد «ميتا» عن الهجرة، شأن التقرير الحديث الرائج الصادر عن «أكاديمية العلوم الحديثة»، راعى بدقة وجود نتائج توصل إليها خبراء الاقتصاد من طرفي النزاع. وحتى إن تبيّن أن بعض الأبحاث الفردية عن الهجرة غير أمين، فليس هناك إجماع ثابت بين فئة العلماء يستطيع الناس ملاحظته بأنفسهم بسهولة. وتعتبر سندات الرهن العقاري من الحالات الأكثر تعقيداً بسبب قلة عدد الأشخاص الذين قرعوا أجراس الإنذار عن النماذج التي استخدمت لتحديد المخاطر التي تمثلها هذه الأصول في السنوات التي سبقت عام 2008. لكن لأن البنوك التي أصدرت سندات الرهن العقاري المذكورة انتهى بها الحال بالاحتفاظ بالكثير منها – مما أدى بها إلى الوقوع في مأزق الإفلاس بالغ الخطورة – فيبدو على الأرجح أن إساءة تقدير سعر تلك السندات كان خطأً كبيراً، وليس مؤامرة.
فالغباء الإنساني والتفكير الجمعي غالباً ما يكون المتهم الحقيقي، وليس جموع الخبراء الشريرين. لكن في قضية محددة واحدة فإننا نستطيع القول: إن الاتهامات التي أثارها وينستن قد تضمنت بعض الحقيقة، والمقصود هنا مجال التجارة.
فلسنوات كثيرة، كان هناك إجماع عام من الخبراء على أن القيود المفروضة على التجارة إجراء سيئ. فقد كان من الصعب أن تجد خبيراً اقتصادياً أكاديمياً على استعداد لأن يعلن أن منافع التحرر الاقتصادي ربما لا تستحق كلفتها. وجاءت الإجابات في استطلاعات الرأي العام عن التجارة الحرة لتكشف ما يشبه الإجماع العالمي للفكرة، وتمثل ذلك في رد خبراء الاقتصاد الذي جاء فيه: «إن التجارة الحرة تحسن كفاءة الإنتاج وتعطي للمستهلك خيارات أكبر، وعلى المدى البعيد فإن هذه المكاسب ستكون أكبر بكثير من أي تأثير قد يصيب عملية التوظيف».
والتبرير الذي يعطيه خبراء الاقتصاد (ولا يزالون يعطونه) للتجارة الحرة هو نفسه نظرية القرن التاسع عشر التي ابتدعها خبير الاقتصاد ديفيد ريكاردو عن الميزة النسبية، وهي الفكرة البسيطة التي تدرس في كل منهج اقتصاد للمبتدئين.
وخلف الأبواب المغلقة، فإن خبراء الاقتصاد يعمدون إلى اتخاذ قرار أكثر وضوحاً. فالخبراء يدركون أن تحرير التجارة قد يضر بفئة معينة، لكنه سيكون سبباً لغنى فئة أخرى منتقاة قليلة العدد.
لكن ربما يكون الوقت قد تأخر لاستعادة ثقة الناس في خبراء الاقتصاد. فالخبراء ارتكبوا خطأ كبيرا عندما عبروا عن ثقتهم المطلقة بالتجارة الحرة أكثر من ثقتهم بأبحاثهم الخاصة. ولذلك فعلى الخبراء أن يعترفوا بأن هذا الخطأ كان خطوة أولى ضرورية في طريق صعب طويل، وعليهم السير فيه لإقناع الناس بأنهم لم يخدعوهم.

 

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.