((الواقع الجديد)) الاثنين 18 ديسمبر 2017 / متابعات
د. عبدالله الردادي
ما إن أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب عن اعتراف دولته بالقدس عاصمة لإسرائيل، حتى سارع بعض الناشطين في مواقع التواصل بالتسويق لمقاطعة المنتجات الأميركية؛ بدأت هذه الدعوات بتغريدات بسيطة، وتطورت حتى أصبحت تصاميم إنفوغرافية، تشمل صوراً لعلامات تجارية أميركية مشهورة، مثل ماكدونالدز وكوكاكولا وبرغر كينج وغيرها من العلامات التجارية الأميركية. بداية، يجب التوضيح أنه لا مزايدات على مكانة ثالث الحرمين وقبلة المسلمين الأولى في قلوب المسلمين؛ القدس عاصمة إسلامية، منذ فتحها الفاروق عمر بن الخطاب سنة 637 ميلادية حتى يرث الله الأرض ومن عليها. والقدس رخصت لأجلها دماء المسلمين، ومن السذاجة التفكير أن مسلماً سيفضل وجبة «برغر» على القدس. أما عن المقاطعة، فإن ما أطرحه في هذا المقال هو: هل مقاطعة المنتجات الأميركية فعالة اقتصادياً؟ ومن المتضرر الفعلي من هذه المقاطعة؟ ومن المستفيد منها بالمقابل؟ سأذكر عدة حوادث تاريخية عن مقاطعات اقتصادية بدأت بنيات وانتهت بنتائج عكسية لهذه النيات. الحادثة الأولى كانت في الولايات المتحدة، في عام 2005، ضد شركة الملبوسات «أبيركرومبي آند فيتش»؛ قامت هذه الشركة بعرض ملابس كُتبت عليها عبارات وصفت بأنها «مهينة» للنساء، وبأنها تدعو لمعاملتهن على أنهن مجرد جسد بلا عقل. وعليه، فقد قامت إحدى الجمعيات النسوية بالاحتجاج والتسويق لمقاطعة هذه الشركة. وبعد شهر من الاحتجاجات، قامت الشركة بالإعلان عن سحب هذه الملابس من معارضها، ورأت الجمعية النسوية أن المقاطعة انتهت بالنجاح، إلا أن التقارير أشارت لاحقاً إلى أن الشركة لم تعلن عن سحب الملابس إلا بعد بيعها بالكامل، وأن حملة المقاطعة كانت دعاية مجانية للشركة، وتسببت بارتفاع المبيعات بنسبة لم تكن أي حملة إعلانية منظمة قادرة على تحقيقها.
أما الحادثة الثانية، فكانت مقاطعة الولايات المتحدة للألعاب الأولمبية التي أقيمت في الاتحاد السوفياتي سنة 1980، حيث أعلن الرئيس الأميركي آنذاك، جيمي كارتر، أن أميركا لن تشارك في المسابقة إن لم ينسحب السوفيات من أفغانستان، ولكن الخاسر الأكبر من هذه المقاطعة كانت شبكة «إن بي سي» التلفزيونية الأميركية، التي اشترت حقوق النقل التلفزيوني بما يقارب 85 مليون دولار، كان نصيب السوفيات منها 61 مليون دولار؛ وبكل تأكيد لم يُعد السوفيات هذا المبلغ لشبكة «إن بي سي».
والطريف أن السوفيات بالمقابل قاطعوا أولمبيات لوس أنجليس صيف 1984، وكان أكبر خاسر من هذه المقاطعة هو مطعم «ماكدونالدز» الأميركي، الذي أعلن أنه سيوزع وجبات مجانية لكل ميدالية ذهبية تحققها الولايات المتحدة، ومع انسحاب السوفيات وحليفتهم ألمانيا الشرقية من الأولمبيات، كان للرياضيين الأميركيين نصيب الأسد من الميداليات الذهبية، مما تسبب بخسائر فادحة للشركة الأميركية.
ولعل الحادثة الأقرب ما حدث للشركة السعودية لمنتجات الألبان والتغذية «سدافكو» في منتصف العقد الماضي، حيث نسبت هذه الشركة إلى ما نشر في الصحافة الدنماركية من رسوم مسيئة للمصطفى – عليه أفضل الصلاة والتسليم. وبسبب هذه العلاقة المنسوبة، قامت كثير من حملات المقاطعة لهذه الشركة، ضمن حملة مقاطعة المنتجات الدنماركية آنذاك، مما تسبب بخسائر فادحة لها. وعلى الرغم من إعلانات الشركة المتواصلة بأن ملكية الشركة سعودية خليجية، فإن المقاطعة استمرت، مما دعي الشركة لتقليص حجمها، وتسريح عدد كبير من موظفيها في السعودية، كثير منهم عرب ومسلمون. بعض هؤلاء الموظفين لا يعرفون حتى ما هي عاصمة الدنمارك، ولكنهم فصلوا بجريرة انتساب الشركة للدنمارك.
وسواء كان هذا الانتساب صحيحا أم لا، فالمتضرر الأكبر من هذه المقاطعة هم الموظفون، سواء كانوا مسلمين أم لا، وملاك الشركة الخليجيون، وبالإمكان التأكد من خلال موقع «تداول» من أن الملكية الأجنبية (غير السعودية) في الشركة لا تزيد اليوم على 8 في المائة. ولم تكن «سدافكو» الشركة الوحيدة المتضررة، ولكنني ذكرتها في هذا المقال على سبيل المثال. وحتى يتجلى الاستغلال التجاري لهذه المقاطعة، فقد قامت بعض كبريات شركات التجزئة حينها بالإعلان بكل فخر بأنها لا تبيع منتجات «سدافكو»، تسويقاً لمتاجرهم، واستغلالاً قبيحاً لحملة بدأت أساساً بهدف الذب عن سيد الخلق.
كثيراً ما يقوم التجار باستغلال مشاعر الناس تجاه قضاياهم الجوهرية لخدمة تجارتهم، وبعضهم لا يمانع من استخدام أي قضية مهما كانت حساسة من أجل زيادة مبيعاته وأرباحه، ومن الحصافة التفرقة بين من يريد المقاطعة غيرة على بيت المقدس ومن يريدها لخدمة تجارته. أما محاولة التسويق بأن أميركا ستتضرر من مقاطعة بعض المنتجات الأميركية، فهي محاولة فيها كثير من السذاجة. لا لأن أميركا دولة عظيمة ولا تتضرر بمثل هذه المقاطعة الاقتصادية، بل لأن الملكية العظمى لفروع هذه الشركات في المنطقة العربية تعود لمستثمرين عرب، بل إن بعض الشركات مملوكة بالكامل لمستثمرين عرب ومسلمين. إضافة إلى ذلك، فالنسبة الأكبر من الموظفين في هذه الشركات عرب ومسلمون، لذلك فإن المتضرر الأكبر من هذه المقاطعة غير المدروسة هم المسلمين أنفسهم، والانتصار للقدس لا يكون بقطع أرزاق المسلمين.