((الواقع الجديد)) الثلاثاء 12 ديسمبر 2017
غسان الامام
ليست مهمة الكاتب إزجاء النصائح والتوصيات للرأي العام أو النظام والحزب السياسي. إنما التحدي الكبير له أن يعبر عن رأي أو موقف يختلف ويتناقض مع الاتجاه الشعبي العاطفي السائد في ظروف دقيقة، كحالة الهياج التي نمر بها إزاء قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب، نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس.
لو أن العرب، أنظمةً ومجتمعات، يتابعون بدقة الأوضاع الداخلية في دولة كبرى كالولايات المتحدة، لتوجهوا بهذا الهياج الغاضب نحو قنوات أكثر فائدة وأماناً لهم. فَمَنْ من صناع القرار والقيادات الشعبية في العواصم العربية يعرف أن في مقدمة أسباب هذا القرار الأميركي، الرغبة في التغطية على التحقيق القضائي بخصوص اتهام روسيا بوتين، بالتدخل في الانتخابات الرئاسية الأميركية؟
الإشكالية الكبيرة في تاريخ التعامل العربي مع الغرب (أميركا وأوروبا الغربية)، هي هذا العداء الظاهر والكامن، لكل ما هو عربي، من سياسة، وثقافة، وتاريخ، وأسلوب حياة، وتفكير. لكن هذا العداء النفسي والعنصري لا يقتصر على العرب. فهو موجّه أيضاً إلى شعوب أخرى، كأميركا اللاتينية، وآسيا، وأفريقيا، بل أيضاً إلى شعوب أوروبا الشرقية.
مع ذلك، أشعر من خلال إقامتي الطويلة في أوروبا الغربية، أن هذا العداء قد تراجع. والفضل ليس للدبلوماسية العربية، ولا للإسلام المقيم في أوروبا، وإنما للجهد الذي بذلته أجيال متعاقبة من الطلبة العرب، وفي مقدمتهم الفلسطينيون الذين يشرحون للأوروبيين تفاصيل الظلم الفادح الذي تعرضت له فلسطينهم، نتيجة لانحياز أوروبا لليهود، إلى درجة تسليحها إسرائيل بالقنبلة النووية سراً، في الخمسينات.
غير أن الفضل الأكبر للتحول الشعبي في أوروبا، نحو فهم العرب والقضايا العربية، يرجع أولاً إلى الأنسنة المتدرجة للثقافة والفكر والأدب، في أوساط المثقفين والأكاديميين على ضفتي الأطلسي. ثم في رغبة الفهم المتزايدة لدى ساسة النظام الديمقراطي الليبرالي الذي حكم أوروبا، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ويتعرض الآن لهجمة الشعبوية العنصرية المعادية للعرب.
مع الأسف، فهذا التحول الغربي نحو فهم العرب ومناصرة قضاياهم، تعرقل ويتعرقل بانبعاث الإسلام الحربي المتزمت، وعملياته المروعة في المجتمعات المدنية الغربية، بحجة أن الناخب الغربي هو الذي يأتي للحكم بحكومات معادية للإسلام والعرب. ليس صحيحاً هذا الاعتقاد. فالسياسة الخارجية لا تحتل حيزاً كبيراً من تفكير واهتمام المجتمع المدني الغربي في الحملات الانتخابية. إنما همه هو الحصول على مزيد من المكاسب المحلية والمالية التي حصل عليها خلال نضاله النقابي والحزبي في القرن العشرين.
ولا بد من مصارحة المجتمعات والأنظمة العربية، بأنه لم يُبذل جهد كافٍ لأنسنة الإسلام السياسي، وتعميق فهمه لمبدأ التسامح، كي لا يبقى شعاراً لفظياً يتم تبادله على منابر المساجد، وفي تصريحات رجال المرجعيات الدينية، فيما جرى إنفاق المليارات، على نشر الإسلام المتزمت، بما فيه «الداعشي» و«القاعدي».
أيضاً، أدت عولمة المال إلى تسريب ودمج معظم مدخرات المصارف الإسلامية، في قنوات المال المصرفي العالمي المتعامل بالربح الربوي، من دون الاستفادة منها في تنمية المجتمعات العربية. وتقديم القروض السهلة لأصحاب المشاريع الصغيرة. بل كان نظام «المرابحة» أقسى في حالات كثيرة من النظام الربوي، وذلك باعتراف نقاد متخصصين في متابعة نشاط هذه المصارف.
المثقفون العرب يتحملون مسؤولية كبيرة عن قصور التواصل العربي مع مثقفي الغرب، لتشجيعهم على مواصلة مكافحة العداء العنصري للعرب. المثقف العربي يستطيع التوجه إلى النظام العربي لحثه على رعاية عقد ندوات ومؤتمرات مشتركة ليس لرجال الدين فحسب، وإنما أيضاً للمثقفين والمفكرين والأكاديميين العرب والغربيين في عواصم ومدن الغرب، لتعويد المجتمع العربي على رؤيتها بروح القبول والتسامح.
الغرض إنقاذ المجتمعات العربية من ثقافة العداء والكراهية الإيرانية للثقافة الإنسانية التعددية، بحجة أن إيران، نظاماً ومجتمعاً، ثقافة إسلامية داعية «لمقاومة وممانعة» إسرائيل، فإذا بها أداة للقتل والذبح والاغتيال والتشييع الطائفي، في سوريا والعراق، وأخيراً في اليمن، لغزو الخليج من الحديقة الخلفية.
أظن أنه لم تعد هناك فائدة تُرجى من الدعوة المتكررة لإنشاء محور ضغط عربي (لوبي) في الولايات المتحدة، بسبب اختلاف سياسات الدول العربية. لكن يمكن لجامعة الدول العربية تفويض مؤسسات أو أفراد، للاقتراب من جماعات أميركية مستعدة لفهم العرب، كمجموعة «جي ستريت» اليهودية الليبرالية المعارضة لـ«لوبي» إيباك الممثل لحكومة نتنياهو وأحزابها اليمينية المتطرفة، وكالهيئات الأميركية اللاتينية المدافعة عن حقوق مواطنيها المقيمين في الولايات المتحدة.
رد الفعل العربي على قرار ترمب، لا يشجع الفلسطينيين على تفجير انتفاضة دموية جديدة، لأن العرب والفلسطينيين تعبوا من إطالة أمد النزاع السياسي والمسلح، فالرفض الفلسطيني المستمر ضيَّق مجال المتاح والممكن. في المقابل، كان اعتراف عرفات المستعجل بإسرائيل في الثمانينات مجانياً، فلم يصل إلى نيل الاستقلال. فاكتفى بمكافأة العودة إلى الضفة، ليموت مسموماً تحت الحصار. أما محمود عباس (82 سنة) مخترع مفاوضات أوسلو، فقد رأى أن نيل الاستقلال بالتجزئة والتدريج والتقسيط، أدى إلى استيطان متسارع للقدس والضفة وارتفاع جدران الحصار الخانق، بدلاً من رسم حدود الدولتين.
ما الحل إذن؟ هل المصالحة المنشودة بين «فتح» و«حماس» تكفي لتحقيق ديمقراطية فلسطينية قادرة على مد يدها إلى عرب ما وراء الخط الأخضر (عرب إسرائيل) للضغط المشترك، من أجل تسوية نهائية، يساندها الاتحاد الأوروبي بالتهديد بفرض حصار يمنع تصريف ثلثي الإنتاج السلعي الإسرائيلي في أسواق أوروبا؟ أم علينا الانتظار لرؤية «معجزات» صاروخ التنك الباليستي الإيراني وهو يمشي الهوينى من قارة غزة، ليسقط برداً وسلاماً في ظاهر مستوطنة إسرائيلية؟