((الواقع الجديد)) الاثنين 20 فبراير 2017 / الشحر – حضرموت
نشر هذا المقال بمجلة (حضرموت الثقافية) الصادرة عن مركز حضرموت للدراسات التاريخية والتوثيق والنشر, السنة الاولى, العدد الاول ذو الحجة 1437هـ/2016م)
بقلم / أنور حسن السكوتي
((على الرغم من الشهرة الواسعة التي حظيت بها تلك الرحلات الإستكشافية العظيمة التي قام بها الصينيون في الثلث الأول من القرن التاسع الهجري / الخامس عشر الميلادي والتي عرفت باسم ( رحلات الكنز ) , وتحديداً مابين 1405م – 1433م, ومارافق تلك الرحلات ( السبع ) من كتابات وأبحاث ودراسات عززت من شهرتها وقيمتها , ومالاقته لاحقاً من حفاوة وتكريم لدى عدد من الشعوب التي زارتها , على الرغم من كل هذا , إلا اننا وللأسف لازلنا في هذا القطر الحضرمي ( العريق ) نجهل الشئ الكثير عنها , بل ونجهل حتى أرتباط تلك الرحلات الصينية بحقبة تاريخية مهمة من تاريخنا الوسيط , كم كنّا ولازلنا في امس الحاجة لسبر أغوارها واستجلاء غوامضها وأسرارها .
ولعل في هذه المقدمة البسيطة دافعاً لي لأسلط ولو قليلاً من الضوء لتلك الرحلات الإستكشافية وخاصة في الجانب المتعلق بمدينة الشحر ( الأسعاء ) وهي المدينة الحضرمية الوحيدة التي حظيت بعدد من زيارات ذلك الأسطول ضمن رحلاته السبع للبلدان المطلة على المحيط الهندي , ومكة المكرمة في البحر الاحمر . ولكي لا أطيل على القارئ وخاصة أن هذه المادة ( مقالية ) وليس بحثية صرفة سأحاول هنا تقديم ولو لمحة مبسطة لذلك الأسطول وقائده الصيني المسلم ( تشينغ هو ) وماكتب في ( بعض ) سجلات الرحلة عن هذه المدينة العريقة . وقبلها لمحة موجزة لحاكم الشحر وحيريج آنذاك وهو السلطان ( سعد بن مبارك بن فارس بادجانة الكندي ) (1) والذي وصفه المؤرخ سعيد عوض باوزير بقوله (( كان حازماً يقظاً حليماً مهاباً من جميع الناس , وقد اهتم عقب توليه الشحر بتحسين حالتها الإقتصادية , فبعث رسله إلى القبائل البدوية يدعوها إلى القدوم بقوافلها إلى الشحر لينافس بذلك الأسواق الحضرمية الأخرى . واستطاع الأمير سعد أن يوطد لحكمه في الشحر بما كان يقوم به من اعمال مجيدة اطلقت الألسنة بالثناء عليه , فقد سار في الناس بالعدل وساسهم بالحكمة والحزم حتى ادركته المنية , فخلفه في الحكم أبنه محمد بن سعد )) (2) ونزيد بأن هذا السلطان خلال فترة حكمه استطاع بناء اسطول بحري كبير , وهو الذي استعمله لاحقاً ابنه محمد بعد أن زاد عليه لغزو عدن وإنتزاعها من ايدي الطاهريين سنة 861هـ / 1456م (3) .
ولعل في وجود مثل هذا الأسطول الضخم أمام سواحل حضرموت , والشحر تحديداً , دافعاً لجعل ذلك الأسطول الصيني الضخم أثناء وصوله سواحلنا , لأن يظهر نوعاً من إستعراض القوة والحركات الإستفزازية وهو مالم يفعله مع عدد من الموانئ المطلة على سواحل العربية الجنوبية الأخرى التي زارها كهرمز وظفار , بإستثناء عدن ومقديشو (4) التي فعل فيها الشيء نفسه لبعض الإعتبارات لسنا في صددها هنا .
أما عن قائد الأساطيل الصينية الذي نعني به فهو القائد المسلم الطواشي ( شينغ هو ) واسمه حجي محمود شمس , احد احفاد حاكم منطقة يونان الصينية المسلمة . وينتمي الى أحد السلالات العلوية فيها والمنتشرة في آسيا الوسطى , وقد ذهب بعض الباحثين إلى انه الحفيد ال 36 للإمام علي بن ابي طالب رضي الله عنه (5) . ولد شينغ خه سنة 772هـ / 1371م , وكان يطلق عليه في صغره ( ماسانباو ) بمعنى ( فتى الجواهر الثلاث ) , وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن تلك اللفظة ( ماسانباو ) حرّفت في الأدب الشعبي العربي إلى السندباد صاحب الرحلات البحرية السبع المشهورة تماماً كرحلات تشينغ خه السبع (6) . أُسر في صغره من قبل أسرة ( المينغ ) التي حكمت الصين مابين ( 1368م – 1644م ) (7) وتم خصيه وتقريبه من الإمبراطور الصيني ( يونج لي ) وهو الإمبراطورالثاني من أسرة ( المينغ ) لمزايا عدت فيه , والتي جعلت من الإمبراطور فيما بعد لان يكلفه بالإشراف على بناء تلك الأساطيل الإستكشافية وقيادتها في حملات سبع متتالية . توفي سنة 838هـ / 1435م وضريحه موجود في منطقة نانكنج الصينية .
وكان قوام هذا الأسطول الصيني في رحلته الأولى التي انطلقت سنة 808هـ وعادت سنة 810هـ / الموافق 1405م – 1407م , عدد ( 317 ) سفينة من نوع الزنك ( الجنك ) منها 62 سفينة تحمل الهدايا التي عرفت بسفن الكنز , و ( 28870 ) رجلاً يتوزعون بين جنود وضباط وملاحين وبناءين وكتبة ومترجمين (8) . اما الرحلة السابعة الأخيرة فكانت بدايتها في ربيع ثاني 834هـ الموافق 19 يناير 1431م , وعادت في شهر صفر سنة 837هـ الموافق 14 سبتمبر 1433م . وعدد الزنوك فيها أكثر من ( 100 ) وعدد الرجال عليها ( 27550 ) مابين جنود وضباط واطباء ومجدفون وحدادون وتجار ومترجمون وبحارة ..الخ (9) .
وكانت زيارة الأسطول للأسعاء ( الشحر ) في الرحلات الثلاث الأخيرة ( 5 – 6 – 7 ) , وفي احدى تلك الرحلات ( الرحلة الخامسة ) والتي استغرقت فترة مابين عامي ( 820 – 822 هـ الموافق 1417 – 1419م ) وهي على الأرجح الزيارة الأولى لهذا الأسطول الصيني لمدينة الشحر , وفيها حدث ذلك الاستعراض للعضلات كإثبات للقوة والتفوق , بل وكما ورد في بعض السجلات عن محاصرة هذا الأسطول للمدينة ومناوشات طفيفة حدثت بين الطرفين اعقبها صلح وتفاهمات وتبادل للزيارات والسفارات , اكدته الرحلتان اللاحقتان , وذلك الحدث بل والرحلات برمتها نسبت خطأ في بعض الدراسات للأحساء وليس الأسعاء , فترة حاكمها ( ابراهيم بن ناصر بن جروان ) (10) لوجود لبس في الترجمة . كما أن الوثائق التي لاتزال محفوظة لدى الصينيين يمكن أن تقدم لنا حقائق أخرى ومعلومات مستفيضة عنها (11) .
ولنا قبل الختام التعرف على ماكتبه احد مرافقي الرحلة ومترجميها عن مشاهداته داخل المدينة ويدعى ( ماهوان ) ويلقب بتسونغ داو وهو ايضاً مسلم , حيث كتب عن الشحر : (( يمكن الوصول إليها من قاليقوط تحت ريح طيبة في عشرين يوماً . وهي على ساحل البحر . وسورها من الحجر . وهي مجاورة لتلال ( أو أن التلال قريبة منها ) في صحراء ليس فيها زرع . وتعلف البقر والخراف , والجمال , والخيل بسمك البحر المجفف . ومناخها حار دائماً . وتربتها قاحلة , وغلتها الزراعية قليلة . إلا انه يزرع فيها البر . ولا ينزل فيها المطر لسنوات متتابعة . وتحفر فيها الآبار ويسحب الماء منها بواسطة زوجين من العجلان المسننة وقربة من جلد الخروف . ويعقد كلا الجنسين شعرهم بشكل ظفائر , ويلبسون عباءات طويلة , وتغطي النساء رؤوسهن كما تعملن في هرمز . وجدارها ( المدينة ) من الحجارة وبيوتها من الطين , ويبلغ ارتفاعها ثلاثة أو أربعة طوابق . وفي أعلاها تقع المطابخ وغرف النوم حيث يقيم الضيف . وأما الطوابق السفلى فيعيش فيها العبيد . ومنتجاتها : العنبر , البخور , الجمال السريعة . واهلها مخلصون ويقيمون الشعائر لجنائزهم , ويتجهون في دعائهم إلى الآلهة والشياطين (12) ؟! وتأثراً بما قابله ملك هذه البلاد – من عطف الإمبراطور – أرسل رسالة منه على ورقة من ذهب وهدايا للتعبير عن الخضوع والولاء.
أما البضائع ( التي باعها الصينيون ) فهي الذهب والفضة والمخمل والحرير والصيني والأرز والفلفل وخشب الصندل والصمغيات )) (13) . ولا ننسى أن تلك الرحلات التي قام بها الصينيون شملت كذلك ظفار أثناء حاكمها السلطان ( علي بن عمر الكثيري ) مؤسس الدولة الكثيرية في حضرموت ( ت : 836هـ / 1432م ) وفيها تفاصيل أكثر ومادة أخرى غنية وجديرة بالدراسة , لعل لنا معها وقفات أخرى مستقبلاً )).
__________________
المراجع والهوامش:
(1) باوزير , سعيد عوض , صفحات من التاريخ الحضرمي , دار الوفاق للدراسات والنشر , عدن , الطبعة الثالثة , 2012م , ص150 . وحول نسب ابي دجانة ان كان من قبيلة كندة او من قبيلة مهرة يمكن الرجوع لكتاب المهري , سعد بن سالم بن زومة الجدحي , تاريخ المهرة المسمى التطواف حول تواريخ ومشاهير بلاد الاحقاف , دار المستقبل للطباعة والنشر , الطبعة الأولى , 2013م , ص152. كما ان بعض المؤرخين وبدلاً من سعد, يذكرونه سعيد, وكذلك ابنه محمد بن سعد.
(2) باوزير , سعيد عوض , صفحات من التاريخ الحضرمي , ص150 .
(3) انظر المهري , سعد الجدحي , تاريخ المهرة , مرجع سابق ص156 . الحداد , علوي بن طاهر , الشامل في تاريخ حضرموت ومخاليفها , تريم للدراسات والنشر , الطبعة الاولى في سنغافورة سنة 1940م واعيد تصويرها سنة 2005م . ص115 . باوزير , سعيد عوض , صفحات من التاريخ الحضرمي , 151 . ومن الواضح أن آل ابي دجانة لديهم ولع بالملاحة البحرية وبناء الأساطيل نجد أول إشارة لهم فيما ذكره المؤرخ شنبل , احمد بن عبدالله , في كتابه ( تاريخ حضرموت ) ضمن احداث سنة 756هـ (( وفيها خرج الهنود المجوسيون في ايام الامير داؤد بن خليل الهكاري بقيودهم وسبحوا إلى مركب في بندر الشحر , فجهز ورائهم مركباً مقدمهم الشيخ أحمد ابن عبدالله أبادجانة فأستنقذوا المركب منهم في سقطرا , ونهبوا من الجزيرة مالاً كثيرة , ورجعوا بالمركب إلى الشحر )) . المرجع السابق , تحقيق عبدالله محمد الحبشي , الناشر مكتبة صنعاء الاثرية , الطبعة الثانية 2003م , ص126 .
(4) محيرز , عبدالله احمد , رحلات الصينيين الكبرى إلى البحر العربي , دار جامعة عدن للطباعة والنشر , 2000م . ص59 .
(5) العلوي , هادي , المستطرف الصيني , دارالمدى للثقافة والنشر , سوريا , تاريخ الطبع 1994 – 2000م , ص305 . بينما اعتبر محيرز جده من اصل مغولي . انظر المرجع السابق ص47 .
(6) من بحث د . خليل , محمد محمود , الخليج والجزيرة العربية في الوثائق والحوليات الصينية فترة العصور الوسطى , أسرة مينج نموذجاً , منشور في مؤتمر العلاقات العربية الصينية , جامعة قناة السويس , 2012م . ( نسخة إلكترونية بحوزتي ) .
(7) محيرز , رحلات الصينين الكبرى , ص33 .
(8) المرجع السابق ص57 .
(9) المرجع السابق ص64 .
(10) حدث لبس وخطأ لدى بعض الباحثين الذين كتبوا عن هذه الرحلة وخاصة في تحديدهم للبلد التي زارها الأسطول الصيني بين من أعتبرها الأحساء وآخرين الأسعاء , والسبب على الأرجح يعود إلى الترجمة وإلى جهل البعض بأسم ( الأسعاء ) كأسم قديم اطلق على مدينة الشحر الحالية , حيث اثبت الباحثون التسمية بالحروف اللاتينية ( la.sa ) واختلف البعض في تحديدها إلا أن الخرائط الصينية تؤكد وقوعها مابين ظفار وعدن . وحتى سارجنت اثناء حديثه عن تلك الحملة نسب الرحلات للأحساء , إلا انه تدارك الأمر بإستغراب عن عدم ايراد ميناء الشحر ( الأسعاء ) في تلك الزيارة دون أن يتحقق من الأمر , وانما اعتمد ترجمة المستشرق الإنجليزي ( مايلز ) لكتاب الصيني ( ماهوان ) المعنون ( مشاهداتي في شواطئ المحيط الظافر ) وقد نشرته جامعة كمبيردج سنة 1970م . أنظر ر . ب . سارجنت , التجار والتجارة في اليمن من القرن 13 – 16 م . نشر في كتاب دراسات في تاريخ اليمن الإسلامي , صادر عن المعهد الأمريكي للدراسات اليمنية , ترجمة وتقديم د . نهى صادق . ص73 . للمزيد عن الموضوع حول اللبس , أنظر محيرز , مرجع سابق , ص131 . وأما من ذهب إلى انها الاحساء دون أن يناقش فرضية الأسعاء فنشير للباحث الدكتور محمد محمود خليل وبحثه الموسوم الخليج والجزيرة العربية في الوثائق والحوليات الصينية فترة العصور الوسطى , أسرة مينج نموذجاً .
(11) هناك عدد من الوثائق أوردها الدكتور محمد خليل في بحثه السابق واعتبرها خاصة بالاحساء , ونظن انها تعني الاسعاء ( الشحر ) وعددها ( 8 وثائق ) , ولا نريد الجزم بأحدى القولين إلا بعد التأكد والإطلاع .
(12) يجب أن لا تأخذ هذه اللفظة حسب معناها الظاهر , فمردها للترجمات المتعددة للنص , كما أن هناك ترجمات أخرى لم ترد فيها بهذه الصيغة وقد تم نقلها هنا للامانة العلمية كما في مرجعها .
(13) محيرز , مرجع سابق , ص89 – 90 . انظر ترجمة أخرى للنص في بحث الدكتور محمد خليل . مرجع سابق .