((الواقع الجديد)) الاربعاء 15 فبراير 2017م/ المكلا
يكتبها : أحمد باحمادي
( 1 )
تجهّز مع كل مستلزماته .. أحضر حزمة القات ..
قنينة الماء .. والبيبسي .. ولم ينسَ علبة الدخان ..
أسند نفسه ـ عصراً ـ بكل راحة على متكئه الوثير ..
شرع بنزع الأوراق الخضراء واختزنها في إحدى وجنتيه ..
أخذت بالانتفاخ شيئاً فشيئاً .. برز التلفاز أمام عينيه بقنواته الكثيرة ..
جاء الابن الصغير إلى مجلس الأب ..
التقطت كاميرا عينيه المشهد لمن كان يمثل له القدوة ..
تشوشت ـ فجأة ـ شاشة التلفاز ..
تأفف الأب وصعد لسطح المنزل لضبط الصحن الهوائي ( الدش ) ..
مكث برهة ثم نزل .. وهنا تصلّب في مكانه .. لم تصدق عيناه ما تراه ..
وجد ابنه الصغير قد جعل القات في فمه البريء وينظر إليه بفرح ..
صُعق الأب من المشهد .. ومن مرأى ابنه الصغير على تلك الحال ..
تلاقت النظرات .. تساءل الابن صامتاً ..
ثم مرّ شريط المستقبل أمام عيني الأب ..
قبل أن يقرر الإقلاع عن التخزين ..
( 2 )
اشتعلتْ شفتُه بما وضع فيها من مسحوق الـ ( مضغة ) ..
اعتادها منذ أن كان طفلاً في السادسة .. تعلمها .. أدمنها ..
ولم يستطعْ منها فكاكاً .. فأمست سيدة فمه الخاوي ..
كانت الرائحة الكريهة لا تمنعه من تركها ..
كلا .. ولا اعتراض والديه بالقوة أو السلم ..
لم يتزحزح .. عنها .. قيد أنملة ..
بعد مدّة أحسّ في لثته بالتهاب واحمرار ..
في البدء أهمله .. لم يكترث له .. لكن الألم ازداد ..
” هل تتناول الشمّة ؟ ” سأله الطبيب .. أجابه بالإيجاب.
هنا عرف الطبيب البؤس الذي أقدم عليه هذا المريض ..
بُهت المريض .. حينما أُخبر ..
تبين الفحوصات أنه كان في حاجة ماسة ..
لاستئصال فكه السفلي ..
تساقطت دموعه .. تذكر ـ قبل سنين ـ رجاءات والديه..
ندم وتأسّف .. لكن لات ساعة مندم.
( 3 )
صعدت إلى الباص .. كانت في عجلة من أمرها ..
اليوم هو زواج ابنة عمتها .. وتريد الوصول بأسرع وقت ممكن ..
جمعت حليها .. جواهرها .. وملابسها .. وخرجت مسرعة ..
وصلت لمحطة النزول .. جمعت أشياءها وانطلقت ..
ذهب الباص يطوي الأرض للبحث عمن يبتلعهم في جوفه ..
وصلت إلى بيت عمتها ..
اكتشفت أن حقيبة الجواهر والحُلي غير موجودة ..
جُنّ جنونُها .. أصابتها حالة من الهستيريا ..
لم تنصت يومها لنصيحة زوجها ..
طالما حذّرها ألا تجمع بيضها في سلة واحدة ..
لكنّها في النهاية أضاعت البيض .. وأضاعت السلة ..
( 4 )
ضربها في وجهها بلا هوادة ..
هزّها .. عنّفها .. جرجرها .. بدون رحمة ..
في فترات قصيرة .. تنهال عليها اللكمات واللطمات .. دون سبب ..
تتمنى لو تعرف ماذا فعلت لتنال كل هذا العقاب .. بل العذاب ..
تزوجا بعد رحلة حبّ جميلة .. لكنه مع الأيام تغيّر ..
صار لا يحترمها البتّة ..
قطع عنها زيارة أهلها .. حرّم عليها وصلهم ..
لم تجرؤ على الشكوى .. أو الأنين .. إليهم ..
لم ينقذها من بين براثنه أحد ..
يسومها مطلع كل صباح سوء النكال ..
يعاملها كما تُعامل أَمة مستعبدَة ..
في خارج البيت .. وبين أصدقائه .. كان حملاً وديعاً ..
طيّب المعشر .. حلو اللسان ..
جاءته على جواله رسالة من صديقه المخلص ..
” عزيزي .. هل تعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال عن النساء ..
ما أكرمهنّ إلا كريم .. وما أهانهنّ إلا لئيم ” ..
انتفخت أوداجه من الغضب .. أرعد وأزبد ..
اتهمها بإفشاء أسرار بيت الزوجية لأصدقائه ..
لم ينتهِ عن غيه ولم يرضخ للحديث الشريف .. ولم يرعوِ ..
وعاد لضربها مجدداً ..
( 5 )
كان في جوفه نارٌ تلظى ..
حقد على الناس في .. علمهم .. مالهم ..
جمالهم .. ذكائهم .. شهرتهم .. تفوقهم ..
عاش مكبوت النفس .. جريح الفؤاد ..
يحدث نفسه مراراً .. ويتمنى زوال نِعَمِ غيره ..
كان يرى أنه الأولى بالأفضال ..
أما الآخرون فهمج .. رعاع ..
عاش بهذا التفكير .. دهراً ..
اعتلّت صحته .. تشوهت ذاته.. واحترقت ..
( 6 )
توظف بامتياز في ( وكالة ” قالوا ” ) ..
كان أستاذاً في نشر الشائعات والأكاذيب ..
لم يتورع يوماً عن الخوض في .. الأعراض .. الأموال ..
وكل شيء ..
كان ذا وجه حديدي .. خلا من الصدق والمروءة ..
استقذرته المجالس .. تحاشاه الناس ..
وابتعد عنه الأصحاب ..
عاش في عزلة مستحكمة .. تدمرت نفسيته ..
ماتت شائعاته .. ولم تجد من يحييها ..
بدأ يضحك وحيداً بهستيرية وجنون ..
علم الناس أن دعوة مستجابة أصابته ..
كانت الأيدي تُرفع .. وكان البرآءُ كُثُر ..
( وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ).
( 7 )
حمل الكاميرا .. من دون علم ولا دراية ..
لم يسبق له أن حمل واحدة ..
لكنها فرصة سنحت له ..
وجهها قبالة كل شيء .. ولأي شيء ..
كان كل ما عليه سوى الدوس على زر التصوير .. وتحدث المعجزة ..
في وقت قياسي .. اشتهر بالمصور الفلاني .. المشهور ..
استهوته اللعبة .. واستبدّ به الغرور ..
وصدّق نفسه .. كما صدّقه المغفلون.
( 8 )
كان شعلة من النشاط والحيوية ..
عاش كنحلة في جمع رحيق الخير .. وصنع المعروف ..
أحبّ القيام بأي عمل .. مجاناً
كان يحرص على المشاركة في الأعمال التطوعية ..
ولا يدرك فرصة منها إلا اهتبلها ..
” أيها الأحمق القبيح .. من يعمل في هذا الزمن مجاناً ” ..
انتهره أبوه بعنف وقسوة ..
” أنظر لفلان الذي لا يكل عن اكتساب المال ليلاً ونهاراً ” ..
عنّفه أخوه الأكبر .. والأعقل !!
” أما أنت فتقضي عمرك ( تخدم إبليس بلا جعالة ) ”
تحطمت نفسه .. وتفتّت الخير في زواياها ..
لم يعُدْ أحد يراه في أيّ حملة .. مهما كانت بسيطة ..
اقتنع أن المجتمع يهدم أكثر مما يبني ..
فقرر أن المسألة سهلة ..
أن يقبع في الظل حتى يُرضيَهم.
( 9 )
دَينٌ .. بعدَ دَينٍ .. .. بعدَ دَينٍ ..
غرق في الديون ..
طالبه المدينون بمالهم .. لكنه تهرّب ..
اختفى عن أعينهم .. في الأسواق .. الطرقات .. المتنزهات ..
عدا المساجد ..
ضاقت به الأرض .. كلما ضاق جيبُه ..
عجز عن السداد ..
ذرعاً ضاق به المدينون .. فسلكوا سُبُل القانون ..
أُدخل السجن .. فَقَدَ عملَه ..
نفرت زوجتُه .. تشتت أطفاله ..
قيّدتْه سلاسل الأحزان ..
أمسى يصيح شوقاً لأهله وأطفاله .. وينتظر قدوم رمضان ..
حيث يُفَكّ عن المعسرين ..
( 10 )
اغتسل ليوم الجمعة .. سار مبكراً للمسجد ..
لينال بركة اليوم .. ويدنو من الإمام ..
لكن الخِطبة دمّرت كل شيء .. كانت مكررة ومستهلكة ..
كان الخطيب يقرأ .. أو يثغو ..
بلغة طفحت بالأخطاء الإملائية والنحوية ..
كأنما يلقي على الناس بياناً .. أو فرماناً سلطوياً ..
كان المشهد مملاً .. إلى حدّ الغثيان ..
لم يغيّر يوماً نبرة الصوت .. ولا الهيئة .. أو طريقة الإلقاء ..
كل شيء بدا على حالته البائسة .. منذ سنين وأعوام ..
لم يتنازل عن عرش الخطابة .. ولو كَثُرَ الخطباء ..
ضاق به الناس ذرعاً .. ولم يطيقوا رؤيته ..
كان أغلبهم يصيح في أعماق نفسه ..
يا هذا .. ” ارحل ” ..