((الواقع الجديد)) السبت 11 فبراير 2017م/المكلا
الكاتبة : بنت الكاف
أم بنت البادية السيدة و المربية القديرة / السعد بنت سالم العامري
في زمن قست فيه الظروف عليهن ..فتيات صغار في عمر الزهور فقدن الأب أو إلام .. وقد يكون كليهما .. من هنا كانت البداية !!حيث بدأت الفكرة بتجميع هؤلاء الفتيات ممن فقدن أهلهن أو نزحن مع الأهل إلى المدن الكبيرة بحثاً عن لقمة تسد الرمق في مدرسة صغيرة .كان صاحب الفكرة هو المعتمد البريطاني آنذاك ( المستر انقرامز ) والتي على يده تم إنشاء مدرسة بنات البادية وبتمويل من الحكومة البريطانية وكان ذلك في بداية الأربعينات من القرن الماضي حيث بدأت ببيت صغير يدعى ( بيت بن عبده ) بجوار مقبرة الديس القديمة .. تجمعت فيه عدة فتيات مع مشرفتهن .. ثم انتقلت بعد ازدياد عدد الفتيات إلى بيت آخر على أطراف منطقة ” حصن صنقور ” أو المنورة في بيت يدعى بيت باعوم .
تميز هذا البيت باتساعه النسبي ووجود ساحة أمامية وحوش خلفي , ضم هذا البيت بين جنباته ولسنين عديدة قلوباً خضراء صغيرة تحملها فتيات بعمر الزهور ذقن حرارة اليتم والجوع والخوف من المجهول .وعشن فيه وتعلمن أصول الوفاء والمحبة والعرفان بالجميل قبل أن تحمل أصابعهن القلم لكتابة أحرف فتحت لهن نوافذ النور والأمل والأمان (( بنات البادية )) تجمع لفتيات صغيرات حملن مشاعل التنوير والعلم والمعرفة لسواحل ووديان وبوادي حضرموت .. زرعن أرضاً جدباء لنور العلم والمعرفة وحصدت بهن حضرموت أجيالاً من المتعلمات ورسخن أرضية التعليم في حضرموت .
وبحديثنا عن مدرسة بنات البادية .. لابد أن يسبقه قائد هذه العملية .. العقل المسير لهذه المدرسة .. سان القوانين والأنظمة .. الحامي والراعي والحاني على تلميذاتها ، أنها السيدة الفاضلة والمربية القديرة / السعد بنت سالم العامري كما جاء اسمها في البطاقة الشخصية , أو أمي السعد كما تناديها بنات البادية .
السيدة الفاضلة والمربية القديرة / السعد سالم العامري* من بداية الميلاد في عشرينيات قرن مضى وحتى الوفاة في العام 1995 م .
ولدت في قرية مشطة نواحي جعمية المتاخمة لمدينة سيئون في عمق وادي حضرموت .
نزحت مع من تبقى من أهلها ربما أوائل الأربعينات .. شابة جميلة في ريعان الشباب ..
آثرت الرحيل عن هذه القرية بعد أن فقدت مع من فقد الأبناء والأحباب ” على خلفية الحرب العالمية الثانية ” فقد فقدت ابنتيها وبقي لها الابن الأصغر ، خوفاً على من تبقى وبحثاً عن عيشة كريمة رحلت من بقي من أهلها .. لأيام وليالٍ مشياً على الأقدام حيناً وممتطية ظهر جمل حيناً آخر أوصلتهما خطواتها ساحل حضرموت تحديداً مدينة المكلا التي ربما بحكم ساحليتها يتوفر لديها شيئاً يريح هذه الشابة الملتاعة .ولكن القدر أبى إلا أن يتم لعبته للنهاية .. ليمرض الوحيد .. وتدخله ملهوفة مستشفى المكلا آملة أن لا تفجع مرة أخرى .. ولكن يموت صغيرها بين ذراعيها داخل المستشفى .. و.. تجتاحها الأحزان .. تتوغل بشراهة إلى أعماقها تسربلها ولكن .. بحزن نبيل تغلف وتعتق حباً لجميع أطفال المستشفى لا بل لجميع مرضى المستشفى وأبت مغادرة المستشفى .. وبقيت تواسي المريض وتعين الممرض .. أياماً طويلة عاشتها هكذا ..أمي السعد ربما تحمل قلباً كبيراً يتسع لجميع أطفال الأرض وربما هكذا أرادتها السماء أماً لفتيات حرمن أمهاتهن اللاتي ولدنهن .. كان اللقاء مصادفة السيدة ( دورين ) زوجة المعتمد البريطاني ” في ذلك الوقت ” السيد انقرامس .. تلفت انتباهها هذه المرأة التي تنتقل بخفة بين الأسرة تقدم لهذا كأس ماء ولذاك غيره ..أنها ليست ممرضة فهي لا تلبس زي الممرضات ولا يبدو أنها مرافقة لمريض .. شدت انتباهها .. بدأت أسئلة التعارف .. انتهى التعارف بموافقتها على الأشراف على مدرسة بنات البادية الحديثة الإنشاء ، وهنا بدأت تجربة العمر ..
بدأت عملها كمديرة لهذه المدرسة ومشرفة على هؤلاء الفتيات اللاتي يعيشن في هذه المدرسة ” تعليم – سكن ” مارست عملها بكل جدية وانضباط يصل أحياناً حد الصرامة كانت تعي حجم المسئولية الملقاة على عاتقها والأعجب أنها جلست على مقاعد الدراسة جنباً إلى جنب مع بناتها طالبة مثلهن تتلقى أساسيات التعليم من حروف وكتابة وأسس الفقه والقرآن الكريم ومع الوقت أدت دور المعلم في التوجيه والإرشاد وتعليم الأعمال اليدوية .
ربما سمعت بعض الفتيات أمي السعد في بعض الأماسي وهي تغني بصوت رخيم أثناء اعدادها ” للشاي البخاري ” وربما وهي تنشد بعضاً من قصائد ذلك الزمان الشهيرة كيف لا وهي المتحدثة السلسة اللبقة الحادة اللسان عند اللزوم ..
ربما يصدق في هذه البدوية القائدة قول أحد المستشرقين ” أن البدوي عادة يبدأ من حيث انتهى الآخرون ” .
وهكذا ما بين الميلاد والرحيل الأخير انطوت سنين العمر تألمت فيها أمي السعد وفرحت .. وأختلط أحياناً حزنها بالفرح أو فرحها بالحزن .. ولكنها ربت أجيالاً من بنات البادية ترتعش أهدابهن وتفيض قطرات الدموع عندما يذكر اسمها بناتها اللاتي أضأن قناديل النور والعلم والمعرفة ..
لذا فهي رائدة التعليم في حضرموت لا بل هي ” الأم تيريزا ” حضرموت .
بعد استقلال شطر اليمن الجنوبي والدخول في مرحلة جديدة .. ومع تقدم العمر أثرت أمي السعد الانسحاب وترك القيادة لأحدى بناتها تواصل المسير لتنتهي رحلة العمر في العام 1995م بمدينة المكلا التي شهدت أجمل سنين حياتها.
أمي السعد عوضها الله تعالى بابنها الذي أرضعته و هو ابن شقيقتها سعيد بن عبد الله بن عيلي الكثيري الذي تربى في كنفها وعاشت معه وبقيت حتى أواخر سنين عمرها في رعايته لكن القدر فجعها مرة أخرى برحيله قبلها في عام 1992م، كما عوضها الله بفقد بناتها بنات من كل قبائل حضرموت جعلن من بيتها مزاراً لها حفظن ودها وذكرن جميلها، أمي السعد كانت حريصة أثناء إشرافها على مدرسة بنات البادية بتزويج الفتيات اليتيمات عند تخرجهن من المدرسة وكانت ترسل لأهلهن وذويهن ومقادمة قبائلهن في بوادي حضرموت وحواضرها وكانت في أحايين كثيرة تستأذنهم وتبحث لهن عن الأكفاء، ومع أني أمي السعد قد احتضنت في مدرستها في قسم الحضانة بعض الأطفال الأيتام الذين أصبحوا فيما بعد قيادات في الدولة إلا أن الجميع تنكر لها ولم يرد الجميل وبقيت الحكومة البريطانية تحفظ لها الجميل وترسل لها الهدايا والشهادات والأوسمة والمكافآت حتى وفاتها ولم تقطعها حتى في فترة وجودها في المملكة العربية السعودية، أمي السعد بنت الشيخ والمقدم والشاعر سالم العامري نالت الشيء الكثير من شجاعته وإقدامه وبقيت الرصاصة التي اخترقت ذراعها وهي على الراحلة في إحدى المعارك شاهدة على ذلك.
مهما كتب عنها فلن يوفيها حقها وقدرها فقد كانت أمة بمواقفها وأفعالها وحياتها ملئية بصفحات العلم والأدب والكرم والأصالة وهذه السطور لن تأتي على خصالها وخلالها وتبقى المسؤولية على من عاصرها أو تربى على يديها أن يجمع قصصها وسيرتها حتى تكون نبراساً للأجيال القادمة ، كما أن الأمل معقود على رواد التعليم في حضرموت بعمل ما يخلد ذكراها عرفنا بجميلها وتكريما لذكرها وإبرازاً للمرأة الحضرمية كقائدة ومربية ومعلمة رحمها الله رحمة واسعة وأسكنها فسيح جناته.
الجدير باذكر أن سعيد بن عبدالله بن عيلي الكثيري رحمة الله عليه هو (والد المستشار عبدالعزيز بن سعيد الكثيري أحد أعضاء قيادة العصبة الحضرمية)