((الواقع الجديد)) الخميس 9 فبراير 2017م/المكلا
يكتبها : أحمد باحمادي..
( 1 )
رَحَلَتْ بعيداً وتركَتْه يتجرع وحيداً غصص الفراق ..
تذكرها وأياماً جميلة جمعتهما معاً .. انقضت منذ سنين ..
غير أن خيالها لم يغادر يوماً مخيلته
دبت فيه الحياة إثر ذكرى الحبّ ..
خاطب طيفها : ” حتى تعلمي أنني لا أخون في الحبِّ عهداً ..
ولا أنكث في العشق وعداً ..”
أبحر في ذكرياته ..
سمع عاشقاً يترنم : ” قد يجمع الله الشتيتين بعد ما ..
يظنان كل الظن ألا تلاقيا “.
( 2 )
تقلّب في ليل حالك ..
كان شاباً قد شارف الثلاثين
أراد الزواج لكنه لم يستطع ..
تكاليف وهموم أثقلت كاهليه .. فاستسلم
رحمة الله .. كانت تحلّق فوقه كطائر أبيض
بنظرة شفيقة .. انسابت من عينيه دموع الرجاء
سأل ربه زوجة صالحة لتكون نوراً لحياته الحالكة
كان واثقاً من موعود الله ..
كيف وهو يجيب المضطرّ إذا دعاه ..
وهل من مضطر أحوج من عازب !!
تقاطرت سحائب الإجابة على قلبه الظامئ ..
أحسس ببرد الثقة والإيمان ..
ودع حياة العزوبية .. وعاش مطمئن النفس في قفص مذهّب.
( 3 )
قام في الصف الأول مع القائمين .. كبّر الله مثنى وثلاث ورُباع ..
أدى السنة على أكمل وجه .. كان يحرص على السترة ..
أطلق لحيته وسرحها وقص الشارب.
غادر المسجد .. مكفهرّ الوجه .. قد غابت ابتسامته عن محياه.
سمع رجلاً ينادي ” يا شيخ “.. التفت..
فإذا المنادى شخص آخر ..
لا تنبئ هيئته عن أية مشيخة أو علم كالذي عنده ..
مظهره عادي جداً .. لكن هيبته تجذب القلوب.
” جاهل لا يلتزم السنة ” قال عنه في نفسه ..
رأى أن الناس يتلقونه كما يتلقون الملوك ..
ما السر في ذلك .. ؟؟
” الابتسامة والأخلاق ” أجابه ضميره الداخلي.
( 4 )
جاءه متخفياً في هدأة الليل ،
طرق بابه بهدوء طرقات سريعة و هو يتلفّت يمنة و يسرة ،
كان مغطى الوجه عدا فتحة صغيرة تمتد من عينه اليمنى إلى اليسرى ..
طلب منه سلاحاً كان قد وضعه عنده و استأمنه إياه من قبل ،
رفض أن يعطيه إياه ،
غضب و قال : ألم نتعاهد على المضي قدماً في درب الجهاد ؟
ردّ عليه : نجاهد من ؟ و نقتل من ؟ و لماذا نفعل ذلك ؟
و هل هذا بالضبط ما أراده منا الشرع المطهر؟ ..
قطّب جبينه و قال في حدّة : لقد لوثوا عقلك بهذه الترهات ..
لقد كنت فيما مضى مجاهداً صلباً لا تلين لك قناة !!
قال له : لم يلوث أحد عقلي ، و لكنني استبنت الطريق الصحيح
فتبين لي خلاف ما كنت أفعل .
أحس أن الجدال معه سيكون عقيماً فانصرف من دون سلاح ،
لم يكن قصده إحضار السلاح بقدر ما كان يرغب في استعادة من خرج عنهم في نظره .
بعد أيام سمع في نشرة الأخبار عن اكتشاف خلية إرهابية
تنوي تنفيذ تفجيرات خطيرة ،
تبادلت إطلاق النار مع قوات الأمن
مات بعض عناصرها و أُلقي القبض على البقية ..
تفاجأ عندما رآه من بين القتلى مضرجاً بالدماء ..
كان يأمل أن يبقى مثله
حتى يعرف خطأ الدرب الذي كان يسير عليه .
( 5 )
سار على الطريق الهوينى .. لفت نظره شيء يسقط ..
وجد محفظة تهوي من أحد الرجال ..
التقطها .. كانت ملأى بالنقود.
نادى صاحبها الساهم .. التفت الرجل في ذهول ..
أعطاه إياها .. !!
” لماذا فعلت هذا ؟ ” سأله الرجل بامتنان.
أجابه : ” حتى تعلم أن الخير باقٍ فينا إلى قيام الساعة ”
( 6 )
جسّ جبهتا .. فأحس بأنها ساخنة جداً ..
طفلته الوحيدة قد دهمتها الحمى .. في زمن الحميّات ..
وغياب الصحّة .. والمسئولين الأصحّاء ..
اختطفها ركضاً إلى المستشفى .. وقلبه يكاد يتفطّر خوفاً وحزناً ..
الحمى الفيروسية .. هكذا أظهرت الفحوصات ..
“وماذا تكون هذه الحمى الفيروسية ؟ ” سأل بحيرة وألم ..
لم يجِبْه أحد .. ولم يسأل مجدداً .. !!
أخيراً .. خرجت ابنته من المستشفى ولكن ..
بغير الهيئة التي دخلت بها .. كانت جثة يكسوها جلد ..
بدت كهيكل عظمي بُعث من بين أنقاض طاعون لعين ..
” هل دخلنا مشفىً أم معتقلاً ؟ ” تساءل في نفسه ..
أيضاً .. لم يجِبْه أحد .. ولم يسأل مجدداً .. !!
( 7 )
ربَضَ على عرش المسئولية .. كان الكرسي أكبر منه.
جاء بطرق ملتوية .. حلّ .. واستُبعد الأفضل ..
أجرم في حق مرؤوسيه .. مما عانوه منه.
استأسد ليغطي ضعف نفسه ..
يأمر لا لشيء إلا ليُطاع .. مهما كان الأمر تافهاً ..
موظفون استقالوا هرباً من جحيمه .. والبعض طلب التحويل.
رفعت الشكاوى والتظلمات .. لكن الصيحة في وادٍ.
تمادى في طغيانه .. تلاعب .. نهب .. تحايل ..
طلب الجميع إقالته .. الحال يقول : ألا مجيب ..
( 8 )
مرّ على أوساخ في الطريق .. فلم يتكلم ..
رأى طفلاً يضرب غنمة بعنف .. لم يتكلم ..
وقف بغلمان يلعبون في المسجد ..
كذلك لم يتكلم ..
شاهد تاجراً يغشّ في بيعه .. كأن الأمر لا يعنيه .. لذا لم يتكلم ..
امرأة تصيح مولولة .. ” لقد سرق شنطتي ”
رأى اللص يجري أمامه .. تجاهل الأمر .. ولم يتكلم ..
جلس على رصيف الطريق مع أصدقائه .. يناقشون بكل حماس وعنفوان ..
السلبية المقيتة التي انتشرت في المجتمع ..
كان أكثرهم تفاعلاً .. فتكلم وتكلم وتكلم ..
( 9 )
ذكّرَتْهُ عيناه بعينيها ..
كبَتَ في نفسه صرخات ألم ..
شمس حبه توارت خلف شفقٍ أحمر ..
هامت روحه الكليل .. في أودية الضياع ..
أنهكه اليأس .. ونالت منه سكاكين الريبة ..
اسودّت في نفسهه إشراقات الكون ..
اتشح الأفق بلون الحزن الكئيب ..
خفتت أغانيه .. مات شدوه الذي كان يصدح في الأرجاء ..
كان يخشى أن يتطاول في أمله ويتعدّى حدوده ..
وها قد حصل المكروه .. وليس هنالك من حيلة ..
وأخيراً .. قبع في صدفة الصمت وحيداً ..
دون أن يواسيه أحد ..