“الواقع الجديد” الأربعاء 23 فبراير 2022م / مقال للدكتور/ياسين سعيد نعمان
كان إنهيار وتفكك الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي عام ١٩٩٠ أهم حدث عالمي في القرن العشرين . ويمكن القول أن هذه الأهمية كانت ، من حيث تأثيرها على أمن العالم ونظام إدارته،في مصاف الحربين العالميتين الأولى والثانية .
وفي حين كانت الحرب العالمية الأولى هي الشظية الكبرى التي تجمعت من شظايا ومخلفات حروب نابليون والحروب الأوربية- الاوربية ، التي تبعتها ، وظلت تحوم فوق أوروبا لأكثر من قرن منذ العام ١٨١٥ فقد أدت إلى تغيرات جذرية واسعة في خارطة العالم حيث تم وأد الامبراطورية العثمانية ، ودفنت أحلام إمبراطوريات عتيدة في أوربا (الالمانية ، المجرية- النمساوية ) التي كانت تتطلع لسيادة العالم ، وخرجت إلى العالم قوى جديدة كان من أبرزها الولايات المتحدة الأمريكية ، والاتحاد السوفييتي ، وتعزيز دور ومكانة بريطانيا وفرنسا على الصعيدين الأوربي والعالمي .
وكان من نتائج هذه الحرب أنها تسببت في الحرب العالمية الثانية مع ظهور هتلر كزعيم لتيار الاشتراكية القومية الألماني والذي استقطب تحت رايته كل الحالمين بالانتقام من هزيمة الحرب العالمية الاولى ، واستخدم “النزاع” على منطقة الراين الواقعة ما بين تشيكوسلوفاكيا والمانيا حجة لاشعال الحرب العالمية الثانية من منطلق أن سكان الراين هم رعايا ألمان مضطهدون .
أما الحرب العالمية الثانية فقد عمقت انقسام العالم إلى معسكرين رأسمالي واشتراكي ، وحلفين هما وارسو والأطلسي ، وسوقين السوق الاوربية المشتركة والكوميكون أي مجلس التعاون الاقتصاي للدول الاشتراكية . وتقسيم العالم إلى مناطق نفوذ في مؤتمر “يالطا” عشية نهاية الحرب مما أغرقه في حرب باردة ، رافقتها حروب متعددة خاضتها بلدان كثيرة بالوكالة تحت رايات مختلفة ، وحروب أخرى كحرب فيتنام ، وحرب الكوريتين ، وحرب فوكلاند ، وحروب التحرر الوطني في كثير من دول العالم الثالث ، والحروب العربية الاسرائيلية ، والحروب العربية العربية ، والحرب العراقية الايرانية وغزو العراق للكويت ، وغزو أمريكا للعراق ، وتفكك الهند الى ثلاث دول ، والحرب الأهلية القبرصية وحروب الابادة العرقية في أفريقيا ، وحرب افغانستان ١٩٧٩” وما نتح عنها مما أصبح يعرف في العالم بالارهاب ، والذي لا يزال حتى اليوم يمثل الشظية المؤلمة التي أفرزتها الحرب الباردة .
تظل مخلفات هذه الأحداث الكبرى حاضرة في صورة شظايا تضرب هنا وهناك ، وما لم تستوعب في إطار نظام عالمي فعال وعادل فإنها ، مهما تقادم عليها الزمن ، قد تتسبب في إعادة انتاج الحروب الكونية على نطاق أوسع وأكثر ضراوة .
كان لانهيار الاتحاد السوفييتي شظايا كثيرة لم يولها العالم إهتماماً يذكر ، فقد انشغل بمعجزة سقوط جدار برلين ، وانتفاضات العمال في جدانسك في بولندا ، واعدام الرئيس تشاوشسكو وزوجته في رومانيا من قبل المتظاهرين ، وبرسترويكا جورباتشوف ، واعتلاء يلتسن على دبابة من دبابات من دبابات الجيش الأحمر في الساحة الحمراء في موسكو في مشهد مسرحي في مواجهة جنرالات آخر المتارس المدافعة عن النظام السوفييتي والتي تصدت عام ١٩٩٠ بانقلاب فاشل لمحاولات يلتسن تفكيك الاتحاد السوفيتي .
لم ينتبه العالم ، أو أنه في الاساس تجاهل حقيقة أن هذا الانهيار لم يكن بسبب خطة “حرب النحوم” التي قادها الرئيس الأمريكي “ريجان ” ، أو بسبب حروب افغانستان ، وإنما بسبب مزيج من عوامل ذاتية وموضوعية تتعلق بالعلاقة الداخلية بين المكونات السياسية والمعرفية والاقتصادية والإثنية لذلك البناء الهائل الذي تضخم لدرجة لم يستطع معه جمود القيادة من ملاحقة الاختلالات الضخمة والشروخ العميقة التي أخذت تزعزع أركان النظام الذي تعثر في انتاج مهارات حديثة تمكن الأيديولوجيا من تجديد نفسها بما يتفق وحاجة الناس .. أي أن الانهيار كان بسبب عوامل داخلية أكثر منها خارجية ومصادمة في الأساس للأيديولوجيا التي قام عليها ذلك الصرع الواسع والقوي .
ذلك الانهيار الداخلي لم يكن ليتم بدون شظايا كثيرة ، تنوعت وتوزعت ، وراحت تضرب هنا وتتفجر هناك ، ومعظمها كان ذا صلة بالترتيبات الادارية لنظام الحكم السوفيتي الذي أعاد صياغة الجغرافيا في كثير من الجمهوريات وفقاً لمتطلبات أمنية للدولة السوفيتية في طبعتها اللينينية – الستالينية ، بما في ذلك التنازل عن مقاطعات روسية لصالح جمهوريات سوفيتية مثلما حدث مع “أبخازيا”بضمها إلى جورجيا التي ينحدر منها ستالين ، وما يقال عن أن أوكرانيا هي صناعة لينينية . أياً كان الأمر فإن هذه الشظايا التي ظلت تحوم منذ ثلاثين سنة ، وظهر منها حتى الان القليل مثل تفكيك دولة يوغسلافيا إلى أكثر من سبع دول مستقلة مع ما صاحب ذلك من حروب عرقية وإثنية سفكت خلالها دماء غزيرة ، تقسيم تشيكوسلوفاكيا إلى دولتين ، النزاع حول ابخازيا وحرب جورجيا ، وحرب جروزني في قلب روسيا ، وحروب أرمينيا واذربيجان ومشكلة قرة باخ ، حرب القرم ، أزمة إقليم الدونباس ومقاطعتي دونيستك و لوجانسك اللتان تحاربان للانفصال عن أوكرانيا ، والتي اعترفت باستقلالهما روسيا يوم أمس الاثنين ٢١ فبراير ٢٠٢٢ في مشهد درامي هز العالم كله ، وأزمة أوكرانيا مع روسيا بشأن الانضمام لحلف النيتو ، ومشاعر الخوف والعداء التي تبديها دول البلطيق وبولندا وعدد من دول المعسكر الاشتراكي القديم ، والتي انضمت الى حلف النيتو وأخذت تستقبل قوات أمريكية على أراضيها أثناء الازمة مع أوكرانيا ، تجاه روسيا وسياسة بوتين على وجه الخصوص ، وأحداث كازاخستان مؤخرا والتي قمعت بصورة أظهرت خطورة ما قد يترتب على أي تغيرات جيوسياسية في هذه المنطقة من مواجهات مسلحة .
هذه الشظايا ، وتلك التي لم تظهر بعد ، هي مسألة طبيعية لانهيار دولة عظمى ، تحتاج إلى مهارة عالمية “غير طبيعية” لاحتوائها تجنباً للوقوع في فخ الحروب الكونية التي كانت محصلة لمثل هذه المخلفات حتى لا تقع في أيدي المغامرين لتوظيفها بتسميات وعناوين تنتهي بالعالم الى الكارثة .
لا شك أن العالم لديه الكثير من الوسائل لاحتواء المشاكل التي يخلفها هذا النوع من الشظايا الكامنة ، ومنع الانزلاق نحو الحرب . المهم هو أن يعترف الجميع بأن مخلفات الحروب والصراعات والانهيارات ستظل كامنة في ثنايا تظام عالمي غير عادل ، تتربص بالأمن العالمي ، وأن الخلاص منها لن يتم بواسطة إعادة الاستقطاب وتقسيم العالم ، سعياً وراء مصالح متصارعة ، وإنما بتكامله على قاعدة نبذ الحروب بادارة واعية للمصالح المشتركة .
ف” درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ” كما تقول القاعدة الفقهية في موروثنا المعرفي العظيم .