“الواقع الجديد” السبت 22 مايو 2021 / مقال للكاتب/د.عيدروس النقيب
سأحاول هنا التوقف بهدوء وعلى عجالة بعيدا عن أية إسقاطات عاطفية أو رغبوية أو رد على المماحكات الكلامية، عند ذكرى 22 مايو الحدث الذي جرى قبل 31 عاماً بالوفاء والتمام. عشية 22 مايو كان الشعبان في الشمال والجنوب يتوقان إلى الحدث المرتقب، ويتلهفان لمعانقة حلمٍ كانا يتغنيان به منذ عقود، وبالتحديد منذ نهوض الحركة الوطنية القومية منها واليسارية المناهضة للاستعمار والإمامة والمنادية بالوحدة العربية، واعتقد الكثيرون بما يشبه اليقين أن موعد اليمنيين مع فجر النهضة والاستقرار والرفاهية والتقدم قد دنا. لكن لم تمضِ سنة على الحدث حتى بدأ الحلم يذوي وتضمر أوراقه الناعمة، ولم تمضِ ثلاث سنوات حتى تحول العناق وتبادل القبلات إلى قذائف مدفعية ودوي انفجارات ولعلعة طلقات وهدير مجنزرات وقصف طيرات استهدف كل منشأة من مساكن المواطنين إلى محطات المياة، ومن المعسكرات حتى مصفاة النفط، وسقطت عدن (التي سموها احتيالا وخداعا بـ”العاصمة الاقتصادية”)، لتعود القهقرى عقودا وربما قرونا إلى الوراء. لماذا فشلت محاولة 22 مايو؟ التقييم الموضوعي والمسؤول والمستوفى، يستدعي وقفةً مطولةً وبحثاً واسعاً لعوامل وأسباب إخفاق ثاني محالة وحدوية في العالم العربي، بعد إخفاق مشروع الوحدة االسورية المصرية في مطلع الستينات من القرن الماضي وفك الارتباط بين البلدين والشعبين بالتوافق بين قيادتيهما، ولدى كاتب هذه السطور محاولة متواضعة في طريقها إلى النشر بعنوان “القضية الجنوبية وإشكالية الهوية”، لكننا سنتوقف سريعا عند أحد أهم الأسباب التي أدت إلى وأد محاولة “الوحدة”، بين جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية والجمهورية العربية اليمنية، وتحولها من شراكة وطنية ثنائية ندية، على طريق اندماج وطني حقيقي (مفترض) إلى مشروع حرب وغنيمة وضم أحد الطرفين للطرف الآخر وإلغائه وإقصائه وانتزاع منه أهم الحقوق وفي مقدمتها حق المواطنة. في نظري وقد خالفني كثيرون بما في ذلك بعض الزملاء في ما قلته مرارا، أن السبب الرئيسي لفشل محاولة 22 مايو يكمن في أن طرفيها دخلا هذه الشراكة بنيتن متناقضتين، أو لنقل ببرنامجين مختلفين: الطرف الجنوبي كان قد أجرى مراجعة لتجربة الثورة وبناء الدولة وقرر الإقدام على مجموعة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية، وبالتأكيد الأيديولوجية، وكان على رأس هذه الإصلاحات إقرار التعددية الحزبية والانفتاح على الرأسمال الوطني، وإفساح المجال لحرية الرأي والتعبير، ومراجعة الموقف الأيديولوجي الذي ظل يمثل مصدرا فكريا للسياسات الداخلية والخارجية (بصوابياتها وأخطائها)، وأهم نقطة توصلت إليها قيادة الجنوب، أن قيام دولة مدنية على أساس النظام والقانون والحياة المؤسسية تحترم الحريات العامة والتعددية السياسية سيمكن من إحداث مشروع نهضوي يسمح بقيام تنمية مستدامة تستهدف الارتقاء بحياة الناس وبناء اقتصاد وطني قوي متين قادر على خوض المنافسة على الصعيدين الإقليمي والدولي واستغلال المصادر المحلية وفتح مجالات الاستثمار لرؤوس الأموال المحيلة والخارجية، لامتصاص البطالة وتحريك آلية السوق وإنتاج القيم الجديدة التي تساهم في تحقيق الاكتفاء الذاتي وتنمية الصادرات وتحسين قيمة العملة المحلية وتدوير عجلة النمو، وجاء حدث العام 1990 مبني على هذه المقاربة السياسية والفكرية. لكن الطرف الآخر دخل في مشروع “الوحدة” بسياسات مزدوجة تقوم على ثنائية الظاهر والباطن، ففي الظاهر كان الخطاب الرسمي يتغنى بالوحدة والديمقراطية والتعددية، ويصور كل هذا على إنه سيكون السبب الرئيسي لازدهار ورفاهية الشعبين، كما أوهم الكثير من الجنوبيين بأنهم لن يعرفون الرفاهية إلآ في ظل “تلك الوحدة” وفي الباطن كانت سياسات النظام تقوم على تسخير عناصر التفوق والقوة، وبالذات الديمغرافية منها لغرض الانقضاض على الشريك الجنوبي وسحقه. هذان الاتجاهان المتصادمان دخلا في المواجهة منذ اليوم الأول، فلا وجود نائب جنوبي للرئيس الشمالي ولا رئيس وزراء جنوبي ولا رئيس مجلس نواب جنوبي ولا نصف الحكومة ونصف البرلمان من الجنوبيين سمح بالتحرك باتجاه تبني أجندة واحدة أو لنقل باتجاه تقارب الخُطا لردم الفجوة بين الطرفين السياسيين، بل لقد كان لرئيس الطرف الشمالي الذي صار رئيسا للدولة كلها، رئيس وزرائه وبرلمانه وممثليه البدلاء غير المعلنين لنظرائهم الجنوبيين، وقد أضاف إلى هذا توظيف الورقة الإرهابية لتعزيز الرعب ونشر الإرهاب، واستهداف القيادات الجنوبية التي نظر إليها الكثيرون على إنها مجموعة من الضيوف الذين لا بد من تطفيشهم والتخلص منهم، ويتذكر الجميع أن عشرات العمليات الإرهابية التي جرت داخل صنعاء وخارجها وما أدت إليه من عواقب تفكيكية مهدت بذلك للعملية الإرهابية الكبرى التي جرت في العام 1994م كل هذه العمليات لم تكن تستهدف سوى القادة الجنوبيين. ويمكن القول إنه بالنسبة للمواطن الجنوبي كانت الصدمة مبكرة، فبعد أن كان يتلقى الخدمات المجانية، من تطبيب وتعليم عام وأكاديمي، وشبه المجانية في مجالات الإسكان والمواصلات والنقل والماء والكهرباء والهاتف وغيرها، فوجئ هذا المواطن بانهيار كامل للمنظومة التي اعتمد عليها على مدى ما يقارب ربع قرن، وبعد 1994م تنامت ظاهرة الحيتان البشرية الكبيرة، حيث يقوم أحد هؤلاء ببناء مسجدٍ على مساحة 1600 متر مربع، ثم يبسط على عشرات الكيلو مترات المربعة، وعشرات المنشآت والشركات ومصادر الإيراد الحكومية، ولن نتحدث عن تنامي ظواهر الفقر والبطالة والمجاعة وانتشار الأوبئة التي كانت فد اختفت، وانهيار النظام التعليمي وعودة الأمية بعد أن أوشكت أن تختفي، وغيرها من ظواهر التراجع والانهيار التي أوصلت المواطن الجنوبي إلى ما هو عليه اليوم. لقد حرص الطرف الشمالي منذ البدء على توظيف محاولة “الوحدة” لاجتياح الأراض الجنوبية ذات المساحات الواسعة والمصادر الوافرة والمتعددة والسكان القليلين، وإطلاق سياسات السطو والنهب والاستحواذ على مؤسسات القطاع العام الحكومي الذي كان يمثل الجزء الأكبر من الاقتصاد الجنوبي وكذا نهب القطاع التعاوني بكل مجالاته وأصوله الثابتة والمنقولة، وما تلى ذلك من سياسات السلب والنهب والاستيلاء والعبث، ناهيك عن التصدي لأية مساعي لبناء دولة تقوم على النظام والقانون والدستور والمواطنة المتساوية. وحتى في الشمال الذي يدعي حكام 7/7 أنهم قد صنعوا فيه المعجزات، فإن كل ما أنجزته الحرب هو ميلاد طبقة طفيلية من أثرياء الحروب وما بعدها ممن تنامت قدراتهم المالية بسرعة الصاروخ وبالتوازي مع تنامي نفوذهم السياسي واحتكارهم صناعة القرار. اليوم بعد ثلاثة عقود ونيف يمكننا القول وبإيجاز شديد: إن الحلم الجميل الذي ظل اليمنيون في الشمال والجنوب ييتغنون به على مدى عقود، قد خاب وتحول إلى كابوس، وبعد النكسة لا يمكن استعادة أية صيغة بديلة قابلة للحياة لا في صيغة الدولة الاندماجية التي يتمسك بها الحوثيون وأنصارهم، ولا في صيغة الدولة الاتحادية التي تفتقت عنها ذهنية قادة 1994م، معتقدين أنها يمكن أن تحمي لهم مكاسبهم ومنهوباتهم وتحميهم من مساءلة التاريخ لهم. إن فشل الحلم الوحدوي، لا يقتصر على الدمار المادي والمعنوي والأخلاقي والتربوي الذي شهده الجنوب، على وجه الخصوص، مثلما واصله الشمال، بل لقد خسر الشمال جمهوريته وثورته التي اعتقد قادتها الأوائل بأنها ستنقل اليمن من القرون الوسطى إلى القرن العشرين وما بعده. سيكون من الحماقة الفصل بين كارثة ما بعد 1994م المرتبطة بفشل مشروع عام 1990م وبين ما جرى من أحداث في الجنوب منذ 2007، بل ومنذ 1994م وفي الشمال منذ العام 2011، ثم 2014م، فتراتبية ومتواليات الأحداث وتداعياتها، تقول أن القفزة “الوحدوية ” غير المدروسة والخائبة، قد أنتجت حرب 1994م وهذه بدورها أدت إلى نشوء طبقة سياسية بالغت في فسادها وطغيانها وإثرائها الفاحش وغير المشروع بمقابل تهميش وقمع وتنكيل وإقصاء الشريك الجنوبي، ثم انقسمت على نفسها إلى متنافسين سياسين وإقتصاديين، تسبب فحشهم وطغيانهم بثورة الغضب الشعبي مما فجر الوضع وأدى إلى ما أدى إليه في العام 2011م، وهو ما دفع جزء من هذه الطبقة السياسية الفاسدة المتناحرة إلى التضحية بالثورة والجمهورية والاستعانة بألدِّ أعدائهما، وبقية التفاصييل معروفة للجميع.
إن المخرج من كل ما أنتجته السياسات الخائبة والحمقاء منذ العام 1994م حتى اليوم، لن يكون إلا من خلال العودة إلى صيغة الدولتين الشقيقتين الجارتين المتعاونتين المتعايشتين المنفتحتين على بعضهما وعلى العالم، وهاتان الدولتان لن تقوما ولن تنهضا إلا على أسس حسن الجوار والشراكات المفتوحة فيما بينهما، والمواطنة المتساوية والنظام اللامركزي والتعددية الحزبية والفكرية والحريات العامة والتداول السلمي للسلطة داخل كل منهما. سيحتفل المتناحرون بـ 22 مايو كل على طريقته وفي مكان إقامته، فسيقيم حكام صنعاء المهرجانات والاحتفالات بعيد حصدوا ثماره غير المشروعة مجاناً وبلا جهد ولا ثمن، كما سيحتفل الشرعيون في منافيهم بعيد قتلوه بأيديهم وحرابهم، ولم يعد لهم منه إلا خطاب عبر التلفاز وكرم الأشقاء وحسن ضيافتهم، أما الشعب المقهور فلا يتذكر هذه الذكرى إلا ويستعيد زمناً مضى كانت فيه المروحة وثلاجة التبريد والآير كونديشن وحقنة البنسلين والكتاب المدرسي ووجبة الغذاء المجانية في القسم الداخلي وقاضي المحكمة العادل وإشارة المرور الضوئية وحنفية الماء النقي المعقم بالكلور، كانت حقائق يعيشونها كل يوم وعلى مدار الساعة وليست أساطير يرويها الأجداد والآباء فلا يصدقها الأحفاد والأبناء. متى سيدرك صناع الخيبات والانتكاسات السياسية أن معاندة التاريخ حماقة لا تختلف عن حماقة الثور الذي يناطح الصخرة، وأن العبث بالتاريخ كلفته عالية، وأن صبر الشعوب ليس بلا نهاية؟ ولنتذكر معاً ” فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور”. صدق الله العظيم