“الواقع الجديد” الاثنين 24 اغسطس 2020 / الكاتب / رستم محمود
بعد متخف “آيا صوفيا”، يتجه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نحو تحويل متحف “كاريه” الشهير إلى جامع، الذي كان كنيسة أرثوذكسية يونانية، حوله العثمانيون إلى جامع في أواسط القرن الخامس العشر، إلا أن السلطات التركية كانت قد اعتبرته متحفاً ومنطقة ثقافية عالمية، منذ العام 1945.
بقراره هذا، يبدو أن الرئيس التركي يملك توجهاً “استراتيجياً” في سياساته العمومية، قائم على سلسلة من القرارات والتدابير ذات المظهر “الثقافي” والإيحاء “الديني”، لكن القائمة في حقيقتها على مضمون سياسي ونزعة عدوانية، تشكل بمجموعها فضاء عمومياً، يُشير إلى أن تركيا وزعامة أردوغان، أنما هُما الجهة والجبهة التي “تدافع عن الإسلام والمسلمين”، بالذات رموزهم وثقافتهم وتراثهم وهويتهم الروحية والثقافية، في مواجهة أعداء خرافيين ومُختلقين، لا يعرف أحد من هُم، خلا مشاعر السكان المحليين، من مواطني بلادنا المسيحيين.
المُلفت للنظر تماماً، هو مستويات التباين التام لهذه التوجهات الجديدة لسياسات أردوغان، وما كان قد وعد وأتى وقدم نفسه على أساسه قبل ثمانية عشر عاماً، أردوغان ومشروع السياسي. فحزب العدالة والتنمية كان يعرض نفسه كتيار سياسي يستطيع الجمع بين الهوية الثقافية والرمزية للإسلام الاجتماعي المنفتح، مع قيّم الحداثة الغربية، بالذات منها المبادئ السياسية العُليا، القائمة على الديمقراطية والمساواة واحترام حقوق الإنسان والتعاون والتواصل مع مختلف الثقافات العالمية. تلك السياسات والتوجهات الأردوغانية التي أضمحلت وتلاشت بالتقادم، وصار حزب العدالة والتنمية وزعيمها أردوغان يوحي بأنهم قادة حروب وصراعات هوياتية، أشبه ما تكون بحروب القرون الوسطى.
لا تأتي التوجهات الأردوغانية الحديثة من فراغ، بل ضمن سلسلة من المتغيرات والأحداث التي تحيط بالمشهد السياسي التركي، بالذات بموقع وزعامة أردوغان نفسه، مما يؤكد بأن سياسات وصراعات الهوية التي ينتهجها أردوغان مؤخراً، أنما هي انعكاس وتفاعل مع شبكة من العوامل والمتغيرات الضاغطة في الداخل والخارج التركي، وبالتالي فأنها واحدة من أدوات أردوغان للتفاعل مع هذه الظروف والمناخات، التي خلقها هو نفسه.
فتركيا تشهد أوسع قوس من الحروب والصراعات العنيفة في تاريخها الحديث. تبدأ من الهجمات المستعرة التي تخوضها في مواجهة حزب العُمال الكردستاني في المناطق الحدودية مع العراق، مروراً بإدخال قُرابة ستة آلاف آلية عسكرية إلى مناطق شمال غرب سوريا، دعماً للقوى المتطرفة هناك، وبالتالي الدخول في شبه حرب مباشرة مع روسيا والنظام السوري، الأمر الذي تفعله مثله تماماً في ليبيا. وعلى جنبات كل ذلك، تتهيأ للدخول في حروب مباشرة مع كل من اليونان ومصر وحتى أرمينيا.
في موازاة ذلك، فأن أردوغان صار يمارس أشكال غير مسبوقة من الشمولية السياسية داخل البلاد. فالحريات الصحافية في البلاد صارت في أدنى مستوياتها، وغدت تركيا من أكثر مناطق العالم قمعاً للصحفيين. القمع السياسي كان موازياً لنظيره الإعلامي، خصوصاً بحق القوى السياسية والمدنية المناهضة لحزب العدالة والتنمية، الكردية منها بالذات. وعلى جنبات ذلك، فأن مختلف السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية في البلاد صارت متداخلة فيما بينها، يتزعمها ويسيطر عليها أردوغان والمقربون الحزبيون والعائليون منه. فالجيش والقضاء والبرلمان والحكومة صارت تتصرف وكأنها تابعة لسلطة واحدة.
يحدث ذلك في وقت يعاني فيه الاقتصاد التركي من أسوء موجة من الانكماش، وليس ثمة من أفق واعد لإمكانية تجاوز تركيا لأحوالها الراهنة. فالليرة التركية تسجل أدنى مستويات قيمتها في مواجهة العملات الأخرى، كما أن سنوات التنمية الاقتصادية التي شهدتها تركيا قد دخلت مرحلة “دفع الثمن”، لأنها بالأساس كانت قائمة على سياسات المديونة الكُبرى، التي كان المخططون الاقتصاديون المحيطون بأردوغان يتوقعون إحراز عوائد مالية مستقبلية قادرة على دفع تلك الديون، وهو ما لم تتمكن الحكومات التركية من تحقيقه طوال السنوات الخمسة الأخيرة، حتى أن المديونة الواجب دفعها في القريب العاجل تبلغ 184 مليار دولار.
تحتاج كل تلك الوقائع والأحوال والسياسيات، الحقيقية والمباشرة والضاغطة، تحتاج إلى تغطية كُبرى ومناسبة، تشكل “حروب الهوية” الأداة الأكثر نجاعة لممارسة تلك التغطية، كما يعتقد أردوغان والمقربون منه.
فهذه الحروب المختلقة يمكن لها أن تكون بمثابة رسائل وأدوات بيد أردوغان، فمن جهة يستخدمها لمواجهة مناهضيه، ومن جهة أخرى لخلق أشكال من الوشائج الرمزية والعاطفية بينه وبين القوى القواعد الاجتماعية والقوى السياسية، بالذات تلك التي صارت تخلق لنفسها مسافة عن أردوغان، بسبب الفساد وسياساته الاقتصادية الأخيرة.
القواعد الاجتماعية التركية المحافظة، القومية المتدينة، هي أولى الجهات والقوى الداخلية التي يخاطبها أردوغان عبر سياساته هذه. فهذه الكتلة الاجتماعية والانتخابية والسياسية هي الأكثر تأثراً بمثل هذه التوجهات والألاعيب الرمزية المتمثلة بحروب الهوية وسياسات الصراع الثقافي، بالذات منهم الكتل الاجتماعية الأقل تعليماً وحداثة ومدنية، من سكان مناطق الأناضول الوسطى، التي يعتبرها أردوغان خزانه البشري والانتخابي والسياسي، الذين صاروا كثيري التذمر خلال السنوات الخمسة الماضية، بسبب آثار الأزمات الاقتصادية على تفاصيل حياتهم اليومية.
كذلك فأن حروب الهوية هي بمثابة خطاب سياسي يهديه أردوغان لاستطالاته السياسية في دول المنطقة، بالذات جماعات الإخوان المسلمين وما شابههم من قوى سياسية. تلك التنظيمات التي تحمل خطاباً مركزياً عمومياً، يعتبرونه البرنامج السياسي لتوجههم السياسي إقليمياً. ففي كل من تونس وسوريا وفلسطين، وحتى في مصر ولبنان والعديد من الدول الأخرى، فأن الإسلاميين من جماعات الإخوان يستلهمون دوماً قضية ما، مهما كانت مختلقة ومزيفة، ويسعون جاهدين للإيحاء وكأنها “قضية الإقليم”، تساعدهم في ذلك شبكة ضخمة من الأجهزة الدعائية والإعلامية. حروب الهوية والرموز هي أكثر الأدوات التي تستخدمها في ذلك السياق، لأنها الأكثر قابلية على تغطية طبيعة مساوماتهم وتوافقاتهم السياسية مع القوى التي يدعون محاربتها.
أخيراً، فأن توجهات أردوغان في هذا المنحى أنما تتقصد توجه رسائل مبطنة إلى القوى الغربية، بالذات منها الأوربية، شبيهة باستخدامه لملف النازحين السوريين والأيغور والأفغان. فأردوغان يعتبر الحروب والصراعات الثقافية والدينية أداة بيده، يستطيع تسعيرها في مواجهة الغرب وقتما يرغب، وأنها أداة لتصعيد القوى اليمينية الأوربية غير الديمقراطية، التي تناقض أردوغان ظاهراً، وتكتمل معه جوهراً. وحيث يسعى للحصول على تنازلات من هذه الدول الأوربية، فقط للتخفيف من مستويات هذا التصعيد الديني والرمزي.