الأحد , 24 نوفمبر 2024
a1_27.jpg

لماذا تسارع الترحيب الدولي بوقف إطلاق النار في ليبيا

“الواقع الجديد” الأحد 23 اغسطس 2020 / محمد ابو الفضل

الترحيب المحلي والإقليمي والدولي بإعلان وقف إطلاق النار بين فرقاء الأزمة الليبية لم يخف الغموض الذي يحيط به ما يدفع كل طرف إلى تأويله حسب مصالحه وتحالفاته. كما أن هذا الغموض وفر فرصة للأطراف الخارجية لإعلان دعمها له بالرغم من تناقض مصالحها وأجنداتها كونه يوفر فرصة نادرة لإعادة تقييم الوضع خاصة لدولة مثل تركيا التي تحاصرها الأزمات في الداخل والخارج.

لم يكن إعلان وقف إطلاق النار في ليبيا، الجمعة، الأول منذ بداية أزمة متمددة، ولن يكون الأخير في ظل التباعد الحاصل في المضامين التي حملها بيان حكومة الوفاق في طرابلس، وبيان مجلس النواب في طبرق، ففك الشفرات السياسية والألغاز الأمنية المتراكمة بحاجة إلى المزيد من الجهود الجماعية التي تتجاوز الإعلان المفاجئ.

ما يلفت الانتباه حالة الترحيب البروتوكولي من قبل أطراف محلية وإقليمية ودولية، والسباق نحو تأييد الخطوة وتسويقها باعتبارها نصرا نوعيا. ربما يكون ذلك مقبولا وصحيحا في هذه الأجواء، ليس لأن وقف إطلاق النار سيقود حتمًا إلى السلام والاستقرار، لكن لأن غالبية الأطراف المنخرطة في الصراع أو على هامشه والمهتمة به ولها مصالح في ليبيا أُنهكت بما يكفي وتحتاج إلى فترة من الهدوء والتقاط الأنفاس.

كشفت تفاصيل الأزمة الليبية عن فروقات واضحة في حسابات القوى المختلفة، وأوجدت توازنات عميقة وهشة بين جهات عدة، وقادت إلى تحولات في المعادلات المادية والمعنوية للقوة التقليدية، وحشرت المرتزقة كلاعب أساسي يمكن أن يؤثر في الترتيبات المقبلة في مرحلة وقف إطلاق النار.

وأدت التعقيدات إلى خفض قدرة الكثير من القوى الكبرى على الفعل الحقيقي، واللجوء إلى مناورات خفية تتباين تماما مع ما هو معلن من تصورات وممارسات، جعلتها في الآونة الأخيرة تلجأ إلى وقف إطلاق النار دون أن تعرف كيف تصل إليه بالضبط، وما هي الأدوات اللازمة لتثبيته؟

هروب مفاتيح الأزمة

هربت بعض المفاتيح الرئيسية في الأزمة وذهبت إلى قوى متفرقة، منها القوي والضعيف، والداخلي والخارجي، والمعلن والخفي، والمنظم والعشوائي، إلى آخر مظاهر الازدواجية التي تفجرت في ليبيا، وأكدت أن الإمساك بتلابيب النصر العسكري صعب، والقبض على الجيوب الحيوية للسلام مستحيل.

لجأت جميع الأطراف إلى حيل ومناورات والتفافات متعددة لتحقيق أهدافها، بالتلويح بالضغوط، والليونة، والوصفات الوسط، ولم تفلح في تسيير الأزمة بالطريقة التي يريدها كل طرف، فالقبض على أحد المفاتيح يوازيه مفتاح آخر في جهة مقابلة، وفقدت الأوراق المبعثرة مفعولها مع وجود مثلها أو أقوى منها في يد الآخرين.

أيدت مصر الخطوة دبلوماسيا، والتي تعفيها من تدخل عسكري ثقيل، لكنها لوحت به طالما هناك تهديدات مباشرة

مضت الأزمة بين صعود وهبوط، وأخذ ورد، وتفاؤل وتشاؤم، وانتصارات وهزائم، وزاد على ذلك التلويح بتدخلات عسكرية من قبل مصر والتوقف عند رفع درجة الاستعداد والجاهزية، ولم يجد من لامسوا الأزمة عن قرب أو بعد وسيلة لإنهاء الأزمة حربا أو سلما، وعجزت الخيارات المطروحة عن فرملة اندفاعها إلى المجهول.

وصلت القوى المعنية بالأزمة إلى اقتناع بأن وقف إطلاق النار يمثل مخرجا مناسبا للجميع في الوقت الراهن. فحالة اللاسلم واللاحرب من الصعوبة أن تستمر طويلا في ظل التربص الفاضح، وانخفاض معدل الثقة بين الأجنحة المتصارعة، محليا وخارجيا، ويمكن أن تنفتح بسهولة على معارك ضارية قد تصعب السيطرة عليها.

مع دخول المرتزقة أجواء الحرب وتنامي دور القوى المتطرفة، بدت مهمة التحكم في اتجاه الاشتباكات شبه مستحيلة، كما أن تقاطع ليبيا مع أزمة شرق البحر المتوسط ضاعف من حدتها، لأن تركيا تعمدت الربط بينهما كي تملك أدوات أكبر للمساومة، وتحقق الحد الأدنى من المكاسب التي تسعى إليها.

توافق إرادات

اجتمعت إرادة الأطراف المحلية على وقف إطلاق النار، على أمل أن تجد فيه وسيلة للتسلل إلى أهدافها الخفية، حتى لو كانت متباعدة، فرئيس حكومة الوفاق فايز السراج، وجد فيه ملاذا لإنقاذ سفينته الشخصية من الغرق، بسبب الخلافات التي تعتمل داخلها، أو تحميله مسؤولية استدعاء تركيا والمرتزقة.

قد يصبح الرجل لقمة سائغة من السهولة التضحية بها، وتحويله إلى كبش فداء للكثير من الأخطاء التي وقع فيها، فلم تعد لديه القدرة على حل التناقضات الواسعة، مع تزايد المشكلات الاقتصادية والاجتماعية بعد توقف تصدير النفط وعدم الحصول على عائداته منذ بداية العام، وارتفاع التململ في صفوف الميليشيات الداعمة له.

وقف إطلاق النار يمثل مخرجا مناسبا للجميع في الوقت الراهن
وقف إطلاق النار يمثل مخرجا مناسبا للجميع في الوقت الراهن

كادت السيولة التي تعيشها حكومة الوفاق تفجرها من الداخل، وبدا القبول بوقف إطلاق النار خيارا يمكنها من الحصول على هدنة لترتيب أوضاعها، وباعته لأنصارها كخطوة للسيطرة على سرت والجفرة بدلا من دفع ثمن باهظ لتمكينها من المنطقتين.

وجد الطرف المقابل أن وقف إطلاق النار ينسجم مع الكثير من محتوى المبادرة التي أطلقها عقيلة صالح رئيس البرلمان، ويمكن أن يقود إلى تطبيق بنودها الأخرى، ناهيك عن تكريس وضع الرجل كرقم سياسي محوري في الشرق على حساب قائد الجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر.

ينطوي التباين في المضمون الذي حواه بيان عقيلة عن بيان السراج، على هوة واسعة لفهم دواعي وقف إطلاق النار من قبل الجانبين، فالأول اعتبره مدخلا للإصلاح الحقيقي الذي يريده لبلده، بينما فسره الثاني على أنه إعادة تموضع لحلفائه، ويمنحه أملا للاستمرار على رأس السلطة في صورتها الجديدة، كمسؤول عن تنفيذ الإصلاحات المطلوبة، بحكم خبرته دون أن يعبأ بحجم الكوارث التي تسبب فيها.

يمكن القياس على ذلك في حالتي مصر وتركيا، حيث سوقت كل دولة خطوة وقف إطلاق النار باعتبارها نصرا رمزيا لها، فالقاهرة رحبت بها، لأنها تنسجم مع دعوتها السابقة لذلك في 20 يونيو الماضي، خاصة أنه على مدار الشهرين الماضيين لم يتم تجاوز الخط الأحمر الذي حدده الرئيس عبدالفتاح السيسي في خطاب شهير.

تلقفت مصر الخطوة وأيدتها دبلوماسيا وربطتها بالتسوية المطلوبة، التي تعفيها من تدخل عسكري ثقيل ولا تبتغيه أصلا، لكنها لوحت به أكثر من مرة، وأبدت استعدادا له طالما هناك تهديدات مباشرة للأمن القومي.

ويعني إدخال وقف إطلاق النار حيز التنفيذ بقاء الأوضاع على ما هي عليه، ما يكفي لتحقيق الاطمئنان نسبيا للقاهرة، مع الدفع بقوة نحو وقف التدخلات الخارجية، كهدف رئيسي، فمصر الدولة الوحيدة تقريبا التي ليست لها أطماع في ليبيا، ومصلحتها المركزية في الحفاظ على وحدة أراضيها والتخلص من الإرهابيين وجلب الأمن والاستقرار.

تطبيق الاتفاق على الأرض يرتبط بدرجة الالتزام به
تطبيق الاتفاق على الأرض يرتبط بدرجة الالتزام به

احتاجت تركيا إلى وقف إطلاق النار لتثبت أنها تريد السلام ولا تسعى للحرب، حيث تعرضت لضغوط كثيفة الفترة الماضية، وحاصرتها اتهامات بأنها دولة مشاغبة في المنطقة، واستنفدت خططها في توظيف التناقضات بين روسيا والولايات المتحدة، وداخل الاتحاد الأوروبي، وبدأت تصبح عبئا على عدد من دوله، وكان لزاما عليها الانحناء لعواصف قبل أن تتكبد خسائر، وتخسر ورقة ليبيا للأبد.

منحها وقف إطلاق النار فرصة لتخطي منغصات تحيط بها من جوانب مختلفة، وجعلها تغير خطابها نحو مصر، وتبدو كأنها على وفاق معها، وأوحت لرجالها في طرابلس بهذا المعنى، لتبريد السخونة التي بدت على ورقة التدخل العسكري، وتصدر إلى حلفائها في غرب ليبيا وخارجها أن هناك صفقة بين أنقرة والقاهرة لتقاسم المصالح، وهي كفيلة بزعزعة علاقة الثانية بحلفائها.

تحمل هذه المسألة دلالة أبعد من ليبيا، لأنها يمكن أن تؤثر على علاقة مصر بكل من اليونان وقبرص، فأحد أهداف تركيا تفخيخ هذا التحالف الثلاثي، والذي يضر بمصالحها، لذلك عمدت إلى الإيحاء بأن وقف إطلاق النار جاء في شكل تفاهمات مع القاهرة، في إشارة إلى أن الأخيرة قد تنقلب على تحالفاتها في شرق المتوسط.

يقود النظر في طبيعة المواقف الدولية إلى حالة نادرة اجتمعت على وقف إطلاق النار، كمنقذ من التشتت الحالي في الفضاء الغربي، ورفع العتب عن واشنطن، ويفضي إلى التعرف على حقيقة نوايا روسيا، التي تريد ألا تبدو كمن يشعل الحرائق في ليبيا، عقب تزايد الحديث عن دورها العسكري المتزايد، وارتفاع مستوى التأثير الذي تلعبه عناصر شركة “فاغنر” للأمن في كل من سرت والجفرة.

تكاتفت مجموعة من التطورات فرضت وقف إطلاق النار، غير أن تطبيقه على الأرض يرتبط بدرجة الالتزام به، بما يمهد الطريق لاستئناف عملية المفاوضات الشاقة، ففي هذه اللحظة يبدو التوازن مقبولا بين الطرفين الرئيسيين، وهو ما سعت إليه الكثير من القوى الإقليمية والدولية أملا في منع هيمنة طرف على آخر.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.