الواقع الجديد “الأحد 9 يونيو 2024م / خاص
لا تزال آثار مجزرة مخيم النصيرات التي راح ضحيتها 210 شهداء ومئات الجرحى، حاضرة في كل أركان المخيم، فلا توجد حارة أو زقاق إلا وقد تأثر من العملية.
ومع بزوغ شمس اليوم الثاني للمجزرة، بدأ أهالي المخيم بزيارة ذوي الشهداء، الذين دفنوا عصر أمس على عجل، بسبب الاستهدافات الإسرائيلية، حيث استمرت مدفعية الاحتلال في قصف مناطق كثيرة وسط القطاع، رغم انتهاء العملية البرية الخاطفة.
ولم يتمكن أهالي الشهداء من فتح بيوت عزاء كاملة، واكتفوا باستقبال المعزين أمام منازلهم، وقلوبهم تنفطر حزنا على ذويهم الذين غيبتهم صواريخ ورصاص جيش الاحتلال إلى الأبد، ومن بينهم أطفال لم يكونوا قد أنهوا طعامهم، وآخرون كبارا قضوا وهم يجهزون الطعام، في مشاهد وثقتها هواتف الأهالي.
من بين العوائل المكلومة في المخيم كانت عائلة شلط، والتي فقدت في غارة إسرائيلية على أحد منازلها 30 من أفرادها دفعة واحدة، جرى انتشالهم من تحت الركام. ويقول محمد الذي فقد هذا العدد من أبناء عمومته: “ما كنتش متخيل (لم أكن أتوقع) يصير فينا هيك”، ويضيف: “في لحظة انتهى كل اشي واستشهدوا”، وقد كان لهذا الشاب ارتباط وثيق بأبناء عمومته الذين كانوا يقاربونه في العمر.
وكان من بين المشاهد المؤثرة بعد المجزرة، ذلك الشاب المصاب الذي تدلى جسد طفله من بين يديه مفارقا الحياة، وقد وضع الرجل وجه على وجه طفله يحتضنه ويبكيه بحرقة، إضافة إلى تلك السيدة التي ظهرت وهي تتحدث عما حصل مع أسرتها، فقالت إنها جمعت جسد ابنها الممزق بفعل الغارة، فيما نجلها الثاني وزوجها إضافة إليها أصيبوا جميعا بجراح.
وكتبت الدكتورة آلاء القطراوي على صفحتها في موقع “فيسبوك” وهي تصف المشهد: “حرقوا السماء من فوقنا والأرض من تحتنا، كان الدخان يملأ كل ذرات الهواء من حولي، صوت أخي يخترق الغبار الكثيف وهو يصرخ عليّ بأن أسرع لنغادر، ذهبت لأحضر حقيبتي الصغيرة التي تحوي هويتي الشخصية، لأنني لا أريد أن يضيع اسمي أو أن أتحول إلى مجهولة هوية في هذا الموت الجماعي، فأنا أحب اسمي وأحب تاريخ حياتي الصغير والذي يشبهني كثيرا، وأحب قصائدي وابتهالاتي وروحي التي تحبّ الله والسماء كثيراً.. يصرخ شقيقي عليّ أن أسرع، إلا أنني شعرت بقوة ما وصرخت بأنني لن أخرج من البيت بثياب الصلاة. أريد ارتداء عباءتي التي أحبها، وإذا كنت سأموت، فإنني أفضّل الموت في البيت على الشارع”، وتضيف: “نزلت الدرج وأنا أسمع الصواريخ تقتات أعمارنا بصوتٍ عالٍ، حين وصلت إلى الباب، وجدت الناس يهربون في كل اتجاه، وقبل أن أسأل بيأس: إلى أين سنذهب؟ قلت: أنا تعبت يا الله”.
أما الدكتور عبد ربه العنزي، فقد علق على المجزرة بالقول: “من أصعب اللحظات الإنسانية بؤسا، ووجعا، واحتراقا، حين تحاصرك النيران برا وبحرا وجوا.. كأن الجهات الثلاث أقسمت على إبادتك، فتنسى موتك لتسارع ملهوفا تحتضن بين جناحيك صغارك وفلذات قلبك لتهرب بهم إلى جهة رابعة لا تعرف مسارها وسبيلها. تحمي في دقات قلبك ارتعاشات خوفهم لتنجو بهم، حين تهرب بهم من الجحيم، تتنفس مرة أخرى أمام وجه الموت الذي تركته في الظل. ثم تمد يديك لتعانق وجوههم وتلمس أنفاسهم براحة يديك لتتأكد أنهم ما زالوا معك”.
ويصف سكان المخيم ما حدث أمس بأنه أشبه بـ”يوم القيامة”، حيث كانت أصوات القصف والرصاص والدمار تسمع في كل مكان، في مشهد لم يحدث من أول الحرب، ولا يزال أطفال المخيم مسكونين بالخوف، ويتحدثون فيما بينهم عما حدث صبيحة السبت.
إلى ذلك، فقد بدأ الأهالي المكلومون بنفض غبار المعركة والقصف، حيث شرع من أصيب منزله بأضرار بالغة في إزالة أكوام الركام، ليصبح المنزل شبه صالح للسكن، فيما عمل من نُسف منزله بالكامل على استخراج بعض من أغراضه من تحت الركام.
وفي سوق المخيم الذي كان يكتظ يوميا بالسكان والنازحين، فقد خفّت في اليوم الثاني للمجزرة الحركة، وتوقفت في بعض الشوارع القريبة التي اعتلاها ركام القصف والغارات.
ويقول حسام أحد أصحاب بسطات البيع في السوق، إن العدد الذي وصل للتسوق لا يساوي 10% من العدد الذي كان يصل السوق يوميا، لافتا إلى أنه كبائع والسكان، يخشون من تكرار عملية عسكرية أخرى لجيش الاحتلال.
ويشير خلال حديثه لـ”القدس العربي”، أنه وعددا من أصحاب البسطات، نجوا بأعجوبة من الموت، حيث تساقطت حولهم قذائف مدفعية ورصاص أطلقته الطائرات المسيرة “كواد كابتر”.