((الواقع الجديد)) الجمعة 21 أغسطس 2020م / متابعات
يجد تنظيم القاعدة في حالة عدم الاستقرار التي ترسّخت في اليمن بالتوازي مع سوء الأحوال الاجتماعية وانتشار الفقر، إلى جنب كثرة الصراعات السياسية ونشوء الكيانات الموازية التي تتنازع تركة الدولة المحتضرة، فرصة مواتية لإعادة ترسيخ أقدامه في البلد ذي الموقع الاستراتيجي قريبا من منابع نفط الخليج وبمحاذاة بعض أكثر الممرات البحرية أهمية لدول المنطقة والعالم.
وحمل إقدام عناصر القاعدة مؤخّرا على إعدام طبيب يمني بطريقة “استعراضية” إنذارا بأنّ التنظيم بصدد الإعلان عن وجوده مجدّدا في اليمن بعد سنوات صعبة بالنسبة إليه تلقّى خلالها سلسلة ضربات موجعة أرخت قبضته على مناطق في اليمن كان على وشك تأسيس إمارته المنشودة على أرضها.
وأصبحت الانقسامات والصراعات التي استشرت ولم تعد مقتصرة على وجود معسكرين هما معسكر الحوثي ومعسكر الشرعية، بل تسرّبت إلى مكونات المعسكر الثاني، تمثّل فرصة إضافية للقاعدة لترميم صفوفها واستعادة ما خسرته في اليمن خلال السنوات الماضية.
وفيما يتّهم المجلس الانتقالي الجنوبي حزب الإصلاح المحسوب على معسكر الشرعية بإعادة تدوير عناصر القاعدة واستخدامهم في الحرب ضدّ قوات المجلس، يوجّه التحالف العربي الذي تقوده السعودية الاتهام لجماعة الحوثي بربط “علاقة وثيقة ومصالح مشتركة” مع التنظيم الذي كثيرا ما نظر كبار قادته ومنظريه إلى اليمن بتركيبته القبلية المتشعّبة ومجتمعه الأميل إلى الحفاظ والتديّن كحاضنة مناسبة له، أو “كأرض نصرة لا جهاد” وفق عبارة لزعيم التنظيم أسامة بن لادن في رسالة عثر عليها ضمن الوثائق التي صادرتها المخابرات الأميركية من منزله في أبوت آباد بباكستان بعد قتله سنة 2011.
إعلان وجود
لم يسلم اليمن وسكّانه رغم ذلك المنظور من “جهاد” تنظيم القاعدة الذي صعّد خلال العشرية الجارية من عملياته الدموية من اغتيالات وتفجيرات وإعدامات، عندما رأى أن السلطة القائمة بصدد التخلخل بعد تفجّر موجة الاحتجاجات بوجه نظام علي عبدالله صالح كصدى لـ”الربيع العربي”، وأن لديه فرصة للانتقال إلى مرحلة جديدة يخرج فيها من العمل السرّي والعمليات الخاطفة إلى السيطرة على الأراضي وهو ما تمّ بالفعل من خلال سيطرة التنظيم على بعض المناطق في حضرموت وأبين إضافة إلى جيوب صغيرة في محافظات جنوبية أخرى دون أن يتمكّن من الحفاظ على الأراضي التي احتلها سوى لفترات محدودة حيث اشتدت الحرب ضدّه بمشاركة قوات محلية وأجنبية وأجهزة مخابرات إقليمية ودولية، ما أفضى إلى هزيمته وتراجعه وانكماشه.
وأعادت عملية الإعدام الاستعراضية التي نفّذها عناصر تنظيم القاعدة الأسبوع الماضي بحق طبيب أسنان يمني في محافظة البيضاء بعد اتهامه بـ”التجسس”، إلى الأذهان ما كان يقوم به التنظيم في مدينة المكلاّ مركز محافظة حضرموت عندما سيطر عليها سنة 2015، وأجرى “قوانينه” المتشدّدة على سكانها، وأعدم رجلين اتهمهما بالتجسّس للسعودية وعلّق جثتيهما على جسرين في المدينة إمعانا في ترهيب السكّان.
ورأى مختصون في شؤون الجماعات الإسلامية المتشدّدة في عملية إعدام الطبيب رسالة من تنظيم القاعدة يعلن من خلالها عن مواصلة وجوده في اليمن واحتفاظه بالقدرة على إلحاق الأذى بمن ينخرطون في مقاومته، وذلك بعد فترة صعبة مرّ بها خلال السنوات الأخيرة وتلقىّ خلالها سلسلة من الهزائم الميدانية والضربات التي أودت بعدد من أخطر قادته المحليين.
وجاءت عملية إعدام طبيب الأسنان على خلفية اتهامه بالتجسّس لحساب الحكومة اليمنية والتسبّب في توجيه ضربات بطائرات دون طيار أميركية ضد أعضاء تنظيم القاعدة، بحسب ما أعلنه مسؤول محلي في محافظة البيضاء.
وهذه هي المرّة الأولى التي يُعلن فيها عن قيام تنظيم القاعدة بعملية إعدام بهذه الطريقة منذ أن خسر التنظيم سيطرته على مدينة المكلاّ قبل أكثر من أربع سنوات على يد قوات يمنية تمّ تدريبها
وتسليحها ودعمها من قبل تحالف دعم الشرعية اليمنية، بعد أن سيطر عليها التنظيم وشرع في إقامة “إمارة” محلية له في اليمن انطلاقا منها.
ضربات غير قاتلة
تلقّى التنظيم بعد ذلك سلسلة من الهزائم الميدانية قلّصت إلى حدّ بعيد مساحة نشاطه على الأراضي اليمنية بينما واصلت الطائرات المسيّرة الأميركية تصيد قادته الميدانيين.
وقال المسؤول المحلي لوكالة فرانس برس إن التنظيم أعدم الطبيب مطهر اليوسفي في مديرية الصومعة محافظة البيضاء وسط اليمن. وبحسب المسؤول ذاته فإنه تم إطلاق النارعلى اليوسفي ثم صلبه وتعليقه على الجدران الخارجية للمركز الطبي الذي كان يعمل فيه. وينشط التنظيم في مديرية الصومعة بعد تقلص نشاطه في جنوب اليمن.
وبحسب المسؤول فإن تنظيم القاعدة اختطف في الأسابيع الماضية خمسة رجال وسبع نساء بتهمة رصد تحركات التنظيم، مشيرا إلى أنه يعتزم إعدامهم رغم جهود الوساطات القبلية لإنقاذهم.
واستغل تنظيم القاعدة في جزيرة العرب ضعف السلطة المركزية في اليمن لتعزيز وجوده في جنوب وجنوب شرق اليمن الذي دمرته الحرب منذ 2014.
وتعتبر الولايات المتحدة تنظيم القاعدة في جزيرة العرب الذي يتّخذ من اليمن مقرا له، أخطر فروع القاعدة. وعززت الولايات المتحدة ضرباتها ضد التنظيم بعد تولي دونالد ترامب الرئاسة الأميركية في العام 2017. وتمكّنت من قتل زعيم التنظيم قاسم الريمي في غارة بطائرة مسيرة في اليمن في فبراير الماضي. واعتُبر مقتل الريمي أقسى ضربة تلقاها التنظيم.
وتهاوى حلم القاعدة ببناء “دولة الخلافة” في اليمن. فمنذ أبريل 2015 استغلّ التنظيم الحرب بين القوات الموالية للحكومة الشرعية وجماعة الحوثي المدعومة من إيران، واستولى على المكلا وأجزاء من أبين وشبوه وشرع في بناء دولته. لكن لم تدم هذه “الدويلة الثرية” كثيرا ففي أبريل 2016 أطاحت بها عملية عسكرية واسعة.
ولم يكن التنظيم أكثر ضعفا وانكشافا منذ ظهوره في اليمن قبل نحو عقدين، مثلما هي حاله خلال السنوات الثلاث الماضية، حيث سقط أبرز قادته والمئات من عناصره في غارات أميركية.
وفي يناير 2017 هاجم جنود أميركيون منزلا في قرية الغيل بمحافظة البيضاء، في أول عملية عسكرية خارجية يصادق عليها ترامب، في الأسبوع الأول من رئاسته.
واستهدف الهجوم قرية تضم نحو عشرة منازل بينها منزل عبدالرؤوف الذهب المشتبه بدعمه لقادة من القاعدة في مناطق خاضعة لنفوذ قبيلته. وأسفرت العمليّة عن مقتل الذهب مع شقيقه سلطان إلى جانب 12 من عناصر القاعدة وجندي أميركي.
وقبل ذلك قُتل جلال بلعيدي في ضربة جوية أميركية، أثناء تنقّله في سيّارة بمحافظة أبين في فبراير 2016. وكان بلعيدي يدير العمليّات القتاليّة للتنظيم. ورصدت واشنطن مكافأة بخمسة ملايين دولار مقابل قتله.
ويتواجد تنظيم القاعدة في جزيرة العرب على شكل مجموعات مسلحة متخفية في الجبال والمناطق النائية التي لا تصل إليها الحكومة، وهي استراتيجيّة قديمة بالنسبة للقاعدة.
لكن وجود مخبرين محليين وتعاون أجهزة استخبارات إقليمية سهّلا من عمليات استهداف قادة وعناصر التنظيم، إضافة إلى ما تمتلكه واشنطن من تكنولوجيا فائقة.
وكانت بداية تنظيم القاعدة في اليمن مع عودة قيادات متشددة من أفغانستان في تسعينات القرن الماضي. وتداعى عدد من العائدين لتأسيس أول “تنظيم جهادي” منتصف 1997، وهي فترة سابقة لإعلان ولادة تنظيم القاعدة، بزعامة أسامة بن لادن.
وحمل هذا التنظيم اسم “جيش عدن – أبين الإسلامي” بقيادة أبوحسن المحضار، ودشن وجوده بهجمات ضد مناطق وتجمعات سياحية، واختطاف سائحين في اليمن من دول غربية.
وردت السلطات بإعدام المحضار، فتولى قيادة التنظيم خالد عبدالنبي. وفي يناير 2009، أعلن فرعا تنظيم القاعدة في اليمن والسعودية الاندماج في تنظيم واحد تحت اسم “تنظيم القاعدة في جزيرة العرب”، واختار اليمن مقرا له.
وبإعلان تأسيس التنظيم، تصاعدت وتيرة الهجمات ضد مصالح محلية ودولية في اليمن والسعودية، وأخطرها محاولة اغتيال الأمير محمد بن نايف بن عبدالعزيز وكان حينها وزيرا للداخلية السعودية ومسؤولا عن ملف مكافحة الإرهاب. كما تبنى التنظيم عملية فاشلة استهدفت تفجير طائرة ركّاب أميركية كانت في طريقها من مدينة أمستردام الهولندية إلى مدينة ديترويت الأميركية بواسطة النيجيري عمر فاروق في ديسمبر 2009.
ومثّل اندلاع الانتفاضة الشعبية ضد نظام علي عبدالله صالح الذي انشغل عن مكافحة الإرهاب بمواجهة الاحتجاجات، فرصة للتنظيم الذي استفاد من حالة عدم الاستقرار ليوسع حضوره في مناطق مختلفة من اليمن.
وسيطر التنظيم على مناطق ومدن زنجبار وجعار في أبين، وعزان في شبوة، والمكلا في حضرموت، وأعلنها “إمارات إسلامية”، ومارس فيها السلطة.
مرونة تنظيمية
استمرت سيطرة القاعدة على المكلا حتى أبريل 2016، عندما أعلن التحالف العربي انطلاق عملية واسعة بمشاركة قوات محلية، لاستعادة المدينة. وبعد فترة وجيزة أعلن التحالف أنه بات يسيطر تماما على المدينة. وقال سكّان محليون إن التنظيم غادر المكلا إلى شبوة.
وفي أغسطس 2016 اقتحمت قوات النخبة الشبوانية مدينة عزان في محافظة شبوة النفطية، واستعادتها من القاعدة التي كانت قد استولت عليها في فبراير 2016 وأنشأت فيها أضخم معسكر تدريبي لمقاتليها.
وشلت تلك الضربات المتلاحقة للقاعدة واصطياد قادته قدرات التنظيم وأدخلته، وفق خبراء، مرحلة من الترنح وفقدان التوازن.
ويخشى الخبراء الأمنيون من أن يكون تنظيم القاعدة بصدد إعادة تجميع صفوفه مستغلا حالة الصراع التي تفجّرت بين قوى مساندة للشرعية اليمنية، وتحديدا جماعة الإخوان المسلمين ممثّلة بحزب الإصلاح، والمجلس الانتقالي الجنوبي المطالب باستعادة دولة الجنوب التي كانت قائمة قبل إعلان الوحدة مطلع تسعينات القرن الماضي.
ويجمع أغلب الدارسين لمسيرة تنظيم القاعدة في اليمن، على أن جميع الضربات والهزائم التي تلقاها التنظيم أبعد ما تكون عن القضاء عليه بشكل نهائي، وأنّ فترات غيابه النسبي ما هي إلا فترات كمون يقوم خلالها بتجميع صفوفه للظهور مجدّدا.
ويقول أنطونينو أوكيوتو الباحث في مركز تحليلات دول الخليج إنّ تنظيم القاعدة “لا يزال لاعبا رئيسا في اليمن”، وإنه “يمثل تهديدا إقليميا وعالميا كبيرا ومستمرا”، على الرغم من تعرضه لانتكاسات عدة، مقدّرا أنّ التنظيم بصدد التعافي في ظل وجود قيادة جديدة واستمرار الحرب في اليمن.
ويذكر الباحث اسم خالد بن عمر باطرفي الذي اختاره تنظيم القاعدة زعيما له في اليمن بعد مقتل قاسم الريمي في غارة جوية أميركية، مضيفا أن باطرفي “ورث تنظيما ضعيفا، لكنه موجود على الأرض”.
ويرى أنّ المرونة التنظيمية للقاعدة هي أهم ميزة تمنح التنظيم فرصة مواصلة الوجود في اليمن، مؤكّدا أن القضاء عليه “سيتطلب أمورا أكثر بكثير من مجرد بعض العمليات العسكرية الناجحة التي يقوم بها خصومه”.
ويذكّر أوكيوتو بأنّ “نجاح التنظيم لم يكن مرتبطا أبدا بدرجة ضخامة قوته العسكرية، بل بنجاحه في توفير الملاذات الآمنة والتأييد له في المدن الرئيسة من خلال تواطؤ زعماء القبائل والتغاضي السلبي من السكان المحليين“.