الجمعة , 29 مارس 2024
karl-w

الاقتصاد في حاجة إلى نظريات جديدة

((الواقع الجديد)) الاثنين 5 مارس 2018

كارل سميث

 

يشعر الكثيرون من زملائي في حقل الاقتصاد بحماس بالغ للثورة التجريبية الواعدة في مجال عملنا. وهم يعترفون بالمشاكل المنهجية المتعلقة بالحركة الشبابية، ولكنهم يرون أن الحلول سوف تكون أفضل من الناحية التجريبية. ولكنني، من ناحية أخرى، أعتقد أن ذلك الأمر في حاجة إلى جرعة تنظيرية أكبر.
إن فوائد الثورة التجريبية واضحة للعيان. قبل حقبة الثمانينات من القرن المنقضي، قضى الباحثون معظم أوقاتهم وأغلب طاقاتهم في بناء صروح النظريات الذكية، ولكن غير المجربة. وأدى ظهور الحواسيب المكتبية الرخيصة إلى منح الجيل التالي المقدرة على اختبار هذه النظريات بقدر أكبر من الجدية.
ومن ثم انهارت تلك الصروح. ففي عام 1997 قدم الباحثان ديفيد كارد وآلان كروغر بحثاً يُظهر أن الزيادات الدنيا في الأجور لم تؤد إلى انخفاض العمالة، كما توقعت إحدى النظريات الاقتصادية واسعة الانتشار. وكانت فحوى الرسالة شديدة الوضوح: النظرية كانت وهماً والتجريب أثبت الحقيقة.
وفي الوقت نفسه تقريباً، ذاعت المخاوف بشأن أساليب العلوم التجريبية. وثارت هذه المخاوف أول الأمر في مجال التغذية، حيث استخدم الباحثون تجارب التعمية المزدوجة في اختبار نظرياتهم. وكان اختيار العينات يتم بصورة عشوائية مثالاً بتناول مكمل زيت السمك الغذائي في مقابل العلاج الوهمي. ولم تعرف عينات الاختبار ولا الأطباء الذين يدرسون ردود أفعالهم من تناول مكمل زيت السمك ومن تناول العلاج الوهمي!
وفي أثناء إجراء الدراسة، كان الأطباء يقيسون عوامل الخطر القلبية الوعائية مثل ضغط الدم أو معدل الكولسترول. وأي فوارق ظهرت بين مجموعات البحث يمكن أن تُعزى بشكل معقول إلى الآثار الغذائية لزيت السمك.
وتم إجراء دراسات مماثلة لهذا. وقد وُجد أن المجموعة التي تناولت زيت السمك صار لديها عوامل خطر محسنة، كما أصبحت مكملات زيت السمك الغذائية تبشر بأنها علاج جديد وعجيب لأمراض القلب. غير أنها لم تكن كذلك. فإن التجارب اللاحقة كشفت مراراً وتكراراً عن عدم وجود أي تأثير يذكر لزيت السمك على الصحة.
ويمكن للمرء أن يقول: إن هذه النتيجة المخيبة للآمال أظهرت بالفعل أن النظام العلمي يعمل بصورة جيدة. وكانت النتائج الخاطئة المبكرة تتعارض مباشرة مع الأبحاث اللاحقة. وتم حل المشاكل التجريبية بالمزيد من التجريب.
إلا أن الأمور ليست على الدوام بهذه البساطة. كان بريان وانسينك من جامعة كورنيل أحد أنجح الباحثين في مجال الأغذية في التاريخ. وهو طبيب نفسي مخضرم، ودرس ما الذي يجدي وما لا يجدي في تغيير سلوكيات تناول الطعام. وتم الاستشهاد بأوراقه ودراساته أكثر من 24 ألف مرة، وتم تعيينه من قبل إدارة الرئيس باراك أوباما للإشراف على صياغة المبادئ التوجيهية لوزارة الزراعة الأميركية لعام 2010.
وكانت سمعته كعالم بحثي تبعث على الذهول، ووفقاً للمؤشر (إتش) الذي طوره، يمكن استخدام الإحصائية في قياس مدى تأثير وفعالية الباحث في أي مجال. وكانت تقييم السيد وانسينك في ذلك الوقت يبلغ 70 درجة، وبالمقارنة، قدرت كلية لندن للاقتصاد أن أستاذ الاقتصاد من المستوى المتوسط لديه درجة 7.6، وأن أعلى درجة معقولة في الاقتصاد هي بين 45 إلى 50 على الأرجح.
وكان هناك عدد قليل من الناس البارزين في مجال سياسات أو بحوث الغذاء. ومع ذلك، وفي مارس (آذار) من العام الماضي، نشر الباحث تيم فان دير زي من هولندا ملف السيد وانسينك، مع قائمة من الأخطاء والمخالفات في أعمال السيد وانسينك المنشورة. وزعمت تلك القائمة وجود مجموعة متنوعة من المخالفات فيما لا يقل عن 50 من أعمال السيد وانسينك البحثية، التي تم الاستشهاد بها أكثر من 4 آلاف مرة بصورة جماعية.
ولم تبدأ تحقيقات الباحث تيم فان دير زي بسبب دحض أعمال وانسينك نتيجة أبحاث وأعمال أخرى أجريت في وقت لاحق، وإنما بسبب أن وانسينك كتب مدونة في عام 2016 يشيد فيها بإحدى الباحثات الشابات لرفضها التخلي عن محاولات إثبات اكتشافاته العلمية. وكشفت التقارير في وقت لاحق أن وانسينك أشرف على تدريبها لتحليل ثم إعادة تحليل بياناتها، وأجرى عدة تجارب إحصائية حتى أنتجت النتيجة التي كان يتوقعها.
ثم جمعت الباحثة الشابة، ونشرت أربع ورقات بحثية بناء على هذا العمل، وكلها استشهدت وأيدت أعمال ومزاعم وانسينك. والأمر الذي جعل هذه القضية مثيرة للأهمية هي أن وانسينك لم يكن يحاول إثبات العلوم السيئة. بل كان يباهي العالم بشأن ما كان يعتقد أنه من العلوم الجيدة.
وصف الخبراء في المنهجية العلمية أعمال وانسينك بأنها «تلاوة للأقاصيص بدلاً من كونها علوماً». وفي واقع الأمر، كانت لدى وانسينك دائماً قصة يرويها. كذلك الحال مع كافة العلماء المتفانين في أعمالهم. وفي حين أن وانسينك هو شخصية غير نموذجية بدرجة كبيرة، فمن الشائع جداً لدى الباحثين ذكر النتائج المتسقة مع رواياتهم المفضلة للأمور. وهذه هي الطريقة التي تنشأ وتنمو بها المدارس الفكرية حول العالم.
وهذا هو السبب في أن النظرية تؤدي مثل هذه الوظيفة المهمة. فإن غرض النظرية يكمن في تجريد قصة أحدهم على الملأ، وعرضها على العالم في إطار شائع، وربما إطار رياضي في كثير من الأحيان يمكّن أي منظر محنك أن يفسره ويخضعه للنقد والتقريظ. وتساعد هذه الانتقادات في تنقيح النظرية، ولكنها تسفر في خاتمة المطاف عن نشوء النزاعات التي لا يمكن تسويتها إلا من خلال التحقيقات التجريبية.
إن الجهود المبذولة في إثبات أو دحض النظرية هي التي تدفع التحقيقات التجريبية الأكثر قوة. على سبيل المثال، افترضت نظرية الكم وجود جسيم تحت ذري محير يسمى «هيغز بوزون». وأسفرت الجهود المبذولة عن إثبات وجوده عن بناء أكبر وأقوى مسرع للجسيمات في العالم، وهو «مصادم الهادرون الكبير»، وفي عام 2012 تم بالفعل اكتشاف هذا الجسيم.
وأعيد استنساخ أسلوب نتائج ديفيد كارد وآلان كروغر بواسطة واحدة من مدارس الاقتصاد، التي أجرى العديد من أعضائها دراساتهم العليا مع المؤلفين الأصليين المذكورين. بيد أن هناك مدرسة معارضة يتزعمها ديفيد نيومارك من جامعة كاليفورنيا فرع إيرفين دفعت في اتجاه الاستنتاجات المعاكسة، بأن الأجور المتدنية أسفرت بالفعل عن فقدان الوظائف. ويستمر المعسكران في إجراء المزيد من الأبحاث، التي تؤكد في معظمها وجهات نظر كل من الطرف الآخر.
إن ما نحتاج إليه هو نظرية جديدة وراسخة تحل محل الحكمة التقليدية المعهودة التي حطمتها أبحاث ديفيد كارد وآلان كروغر. وقد توضح مدى الاتساق بين أساليب المدرستين من خلال النتائج المتوصل إليها، وربما تؤدي إلى إجراء اختبار ثالث يؤدي إلى تحقيق التمايز النظري بين نتائج المدرستين. إن الجيل القادم من الباحثين التجريبيين من شأنه تكريس المواهب لتحويل هذا الاختبار إلى حقيقة واقعة.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.